كشفت كلمة الأمين العام لـ»حزب الله» حسن نصرالله في ذكرى اغتيال قائد «فيلق القدس» قاسم سليماني المزيد من الفوارق الوطنية والثقافية والنفسية بين منظومة «الحزب» وبين سائر اللبنانيين، وأظهرت أنّ هذه الفوارق باتت تساوي سنوات ضوئية في الفكر والسياسة والاقتصاد ونمط العيش على جميع المستويات، ما يدفع إلى الكثير من الاستنتاجات الحادّة حول المآل والمصير في بلد شهد أكبر انهياراته تحت حكم محور الممانعة.
ركّز نصرالله في إشادته المطوّلة بقاسم سليماني على ما كان «يتمتع به من صدق وإخلاص كبيرين، وكان على درجة عالية من التقوى والشوق للقاء الله، وعقل وحكمة وذكاء وابداع وألمعية وقدرة هائلة على تحمّل التعب».
وهنا تقع المفارقة الكبرى في التقييم والاعتبار الديني والقيمي، لأنّ سليماني كان يحقِّقُ الانتصارات في حروب يخوضها، وليس في مباريات شعرية أو مناظرات سياسية. ونتج عن تلك الحروب ملايين الضحايا دُفن مئات الآلاف منهم جَماعياً وتركت حروب سليماني إبادات وتغييراً سكانياً لن تزول آثاره في الجغرافيا ولا في المستقبل، بعد أن تحوّلت حمص وحلب إلى مدن أشباح وتركت الموصل خراباً، وما زال أكثر من نصف أهل العراق وسوريا واليمن مهجّرين داخل أراضيهم وخارجها…
مجدُ قاسم سليماني في نظر أحزاب إيران، قائم على إزالة مدن كثيرة، «يصدف» أنّ أكثر ساكنيها يحملون هوية أهل السنةّ، وأنّ الزاحفين لإزالتهم يرفعون «ثارات الحسين» حتى ليقول قائلهم: نوري المالكي: إن المواجهة هي بين أحفاد الحسين وأحفاد معاوية… و»يصدف» أيضاً أن يجتاح لواء القدس مئات المدن والقرى العربية وأن يضلّ طريقه إلى القدس.
يستند نصرالله في إطنابه بالإشادة بقاسم سليماني إلى مدى إخلاصه الشديد وغير المحدود لنظام الوليّ الفقيه، وهو يربط مصير لبنان بهذه العقيدة حتى بات يعتبرها هوية لبنان الدينية والسياسية والثقافية والاجتماعية، وبات يفرض ممنوعات على النقاش السياسي، وأبرزها سلاحه غير الشرعي وطريقة إدارته وحكمه للبلد، فحلفاؤه مقدّسون، ولو كانوا قبل تحالفهم معه عملاء على رأس السطح، وخصومه خونة، ولو كانوا قدّموا الشهداء ضد الاحتلال الإسرائيلي، فالمعيار هو الانتماء إلى عقيدة ومحور ولاية الفقيه، من دون النظر إلى ما سيتركه ذلك من تداعيات خطرة على تركيبة لبنان ومستقبله ككيان قائم على الحريات والتنوّع والشراكة.
يرى نصرالله أنّه كان طبيعياً قدوم قاسم سليماني إلى لبنان وتجاوزه الكيان والدولة، وتأسيس جيش موازٍ في بلد كان يحتاج إلى دعم مؤسساته الدستورية والشرعية، فاستغلّ ضعف الدولة ليتوسّع على حسابها، مخترقاً السيادة والحدود.
في نظر نصرالله أنّه يحقّ لسليماني أن يمتلك قرار السلم والحرب في البلدان التي نخرها بـ»حرسه الثوري»، كما فعل في لبنان مراراً، وكان آخر تلك الحروب عام 2006 التي دمّرت لبنان ومنعت في نهايتها إطلاق رصاصة باتجاه فلسطين، رغم اعترافه بخطأ قرار خوض تلك الحرب عندما قال ذات خطاب: «لو كنتُ أعلم».
يعمل «حزب الله» عموماً على صبغ وجه بيروت وحيث يسيطر جنوباً وبقاعاً، بالصبغة الإيرانية، فصُور قادة إيران على طريق المطار وغيرها، وعندما يدفع «الحزب» أتباعه من المجموعات اللبنانية وبعض الفصائل الفلسطينية إلى إقامة الاحتفالات وإصدار البيانات وتفعيل المشاركات السياسية والإعلامية في ذكرى اغتيال سليماني، فإنّه يريد فرض التطبيع مع ثقافة تقديس قادته، وعلى رأسهم سليماني، الذين قامت شهرتهم على استباحة المدن في سوريا والعراق، وهو بذلك يريد إذلال هذه الشعوب بإظهار أنّ «المهزومين» يقدّسون محتلّيهم ويمجّدونهم.
يبحث اللبنانيون عن مساحات مشتركة تجمعهم في زمن العواصف الدولية والإقليمية، لكنّ هناك من تجاوز هذا البحث وأصبح في الشوط الأخير من مشروعٍ بات واضحاً أنّه سيغيّر وجه لبنان، وأنّ هناك من تطبّع مع هذا الاتجاه، ليبقى السؤال: هل يمكن للمقتول أن يقدِّس القاتل؟!