يعكس نشوب المعركة المستعرة بين كل من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة والبحرين إضافة إلى مصر، من جهة، وقطر من جهة أخرى، حالة من الورم السياسي داخل مجلس التعاون لدول الخليج العربية. وفي ضوء تمسك كل طرف بمطالبه، يبدو أن الأمور مرشحة لمزيد من التصعيد والتعقيد الذي سينعكس سلباً على تركيبة منظومة المجلس. وهناك أكثر من طرف يقوم بمساعي الوساطة بين الجانبين، لكن المساعي التي يقوم بها أمير الكويت الشيخ جابر الأحمد الجابر الصباح من جهة والولايات المتحدة الأميركية من جهة أخرى، تسجل حالة من التشنج تصور صعوبة الحل الذي يمكن أن تنتهي إليه الأزمة.
ولعله من المفيد استحضار بداية المسيرة الخليجية واستعراض أبرز محطات العمل الخليجي المشترك، وصولاً إلى الأزمة القائمة.
تعود بي الذاكرة إلى ستة وثلاثين عاماً حيث واكبت ولادة مجلس التعاون، وكان ذلك في أبو ظبي في الثمانينات.
كانت مناسبة لقاء زعماء دول الخليج ما يشبه العرس الخليجي في استعراض طغى عليه الجانب الأسري أكثر من أي اعتبار آخر. وتوالت تصريحات الابتهاج بقيام التجمع على أساس أنه التجمع العربي الذي ضمنته وحدة هي الأولى على الصعيد العربي، باعتبار أن المحاولة الوحدوية العربية الأولى كانت بين مصر وسورية في 1958 وقد تم الانفصال بعد ثلاث سنوات.
كان التحدي الأكبر والأبرز للتجمع الخليجي نشوب الحرب العراقية-الإيرانية والتي تواصلت على مدى ثماني سنوات (1980-1988).
ورافق هذه المرحلة صدور العديد من المقالات الإعلامية التي ركزت على نقاط التلاقي بين الدول الست (السعودية، الإمارات، الكويت، البحرين، قطر وسلطنة عمان).
وأذكر أن العديد من كبريات الصحف العالمية ركزت في تعليقاتها على قيام مجلس التعاون لما تمتلكه هذه الدول من ثروات هائلة مع التركيز على المردود الهائل من النفط في ذروة ارتفاع أسعار البترول في تلك الحقبة. وتواصلت مسيرة التعاون الخليجي على مرّ السنوات ومرت بمراحل عدة غلّبت فيها الدول الأعضاء ما يجمع بينها وأجلت المواضيع التي لم تكن الحلول ناضجة لمشاكلها.
وكلمة «الاتحاد» تعني في ما تعنيه التركيز على ما يجمع بين هذه الدول التي شكلت التجمع الأكبر للناطقين بلغة الضاد. وكان مجرد اتخاذ القرار المشترك بين الدول المعنية يعني الاقتراب من تحقيق الأهداف في منظومة واحدة، بقطع النظر عن التعددية القائمة في شكل طبيعي في المجلس المذكور. وكانت المجموعة الخليجية تتمثل بمجموعة دول السوق الأوروبية المشتركة. وفي شكل تدريجي بدأت تظهر علامات «التنافر» بين بعض الدول الأعضاء، بخاصة مع اختلاف التشريعات والقوانين المرعية الإجراء المعتمدة في كل دولة من دول المجلس، واصطدم العمل المشترك ببعض العقبات كمثل المعاهدة الأمنية التي أبدى بعض الدول تحفظات على الانضمام إليها كدولة الكويت على سبيل المثل.
وبدأت الأزمات تتراكم خصوصاً عندما ظهر التناقض بين المصلحة الفردية والمصلحة العامة، ولا يمكن إغفال ما حققه مجلس التعاون من إنجازات على صعيد تسهيل التنقل بين دول المجلس، إضافة إلى الكثير من التشريعات والتدابير التي زادت الترابط بينها على رغم كل المصاعب والإشكالات التي كانت تنشأ من حين لآخر.
أين دولة قطر من كل ما يجرى؟
لقد برز «الطموح» القطري أو الرغبة في التميز منذ المراحل الأولى لقيام تجمع مجلس التعاون، وكانت تعبّر عن هذا التوجه بأوجه مختلفة كانت موضع ملاحظة وتنبه من جانب بعض الدول الشركاء في المنظومة الخليجية.
ومن ضمن «التميز القطري» الانفتاح على مراكز قوى قائمة في منطقة الخليج، فهي تستضيف على أراضيها واحدة من أكبر القواعد العسكرية في المنطقة في العيديد، كذلك تستضيف قاعدة تركية، إضافة إلى سلاحها الثقيل على الصعيد الإعلامي، والمقصود هنا محطة «الجزيرة» التي كانت سياساتها تجاه دول الجوار والمنطقة مختلفة جذرياً بعض الأحيان بالمقارنة بسائر توجهات الدول الأعضاء.
وحدث في مرات عدة أن تم لفت نظر بعض دول مجلس التعاون إلى ضرورة تصحيح مسيرة العمل الخليجي المشترك، وكانت رغبة الدوحة في التمايز والاختلاف واضحة، بخاصة لجهة التعامل مع إسرائيل، الأمر الذي أثار حفظية العديد من دول المجلس.
وبالمناسبة… فخلال العدوان الإسرائيلي على لبنان في 2006، وفي اليوم الثالث والثلاثين من هذه الحرب، كان أمير قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني أول الزائرين للبنان حيث حطت طائرته في مطار بيروت بمواكبة مجموعة من المقاتلات الإسرائيلية أمنت هبوط طائرته على مدرج المطار الذي كان مقفلاً في حينه.
والأزمة الناشبة حالياً بين قطر وكل من السعودية والإمارات والبحرين ومصر هي الأخطر على الإطلاق. فهناك التهمة التي وجهت إلى قطر بتأمين «المواقع الآمنة» للعديد من الوجوه والزعامات التي تعمل على دعم الإرهاب بشتى الوسائل بخاصة عمليات التمويل الواسعة النطاق. هذه التهمة وضعت قطر في قفص الاتهام، فموضوع بحجم وخطورة تقديم الدعم للإرهاب وللإرهابيين لا يمكن التغاضي عنه وعدم معالجة أسبابه وأبعاده وتداعياته.
ويمكن إيجاز الموقف كالتالي: لقد وجهت المملكة العربية السعودية والإمارات والبحرين ومصر لائحة من المطالب التي يجب على قطر الالتزام بها، وإذا لم يحدث التجاوب المطلوب فإن قطر تعرّض نفسها للعديد من الأخطار ليس أقلها الحصار والعزلة.
ودخل الوسطاء على خط «إصلاح ذات البين»، لكن الموضوع أخطر بكثير مما تظهر الأمور والتفاصيل على سطح الحوادث. وظهر الرئيس دونالد ترامب كوسيط بين الطرفين، ويصح في دور أميركا في الوساطة القول: «فيك الخصام وانت الخصم والحكم».
ولقد خصصنا المقال السابق في «الحياة» في هذا المكان بالذات لتصريحات بالغة الخطورة وعلى أعلى المستويات في أميركا. ومما قاله الرئيس ترامب: «إن التدابير المعتمَدة بين دول مجلس التعاون الخليجي تشكل بداية نهاية الإرهاب». وأضاف: «إن الموقف العربي ضد قطر بقيادة المملكة العربية السعودية شديد، غير أنه ضروري» وإن «قطر عبر تاريخها تؤيد الإرهاب على مستوى عالٍ!».
وكشف السيناتور الجمهوري جون ماكين عن المعلومة التالية: «إن الأزمة مع قطر خطيرة وإنها الانقسام الأول بين دول الخليج في تاريخها… وإن الولايات المتحدة على علم بالدعم القطري للجماعات الإرهابية ويجب على الدوحة أن تغير سلوكها»، («الحياة» 17 حزيران- يونيو 2017).
هذه المعلومات الخطيرة الصادرة عن واشنطن ليست بالكلام السياسي العادي، بل تجب الدعوة إلى الادعاء على الولايات المتحدة بجرم كتم المعلومات! إذ كيف يمكن لأي إدارة أميركية تزعم خوضها الحرب على الإرهاب أن تبقى صامتة، حيال الدور الذي تقوم به دولة قطر في تأمين التسهيلات لقادة الإرهاب من دون تحريك أي ساكن لوقف هذا الدور القطري؟
وبعد…
نكتشف يوماً بعد يوم الأحلاف التي نشأت بين الولايات المتحدة الأميركية وجماعة «الإخوان المسلمين» وعناصر أخرى متطرفة، والأمثلة على ذلك بيّنة وعديدة، بينها مثلاً لا حصراً التفاهم الوثيق بين الرئيس السابق باراك أوباما وحركة «الإخوان» مع وصولها إلى الحكم في مصر بعد سقوط حكم الرئيس حسني مبارك وانتخاب محمد مرسي رئيساً للجمهورية، وكانت فترة حكم مرسي من أسوأ مراحل الحكم في التاريخ المصري المعاصر.
وكانت المفاجأة الكبرى عندما سقط مرسي أو أسقط وتولى عبدالفتاح السيسي زمام الأمور عقب انتفاضة شعبية حيث ملأت جماهير ملايين المصريين الشوارع ضد مرسي.
وبذلت إدارة أوباما جهوداً مضنية في الحفاظ على «عرش ممثل الإخوان»، لكن الضغوط الشعبية أرغمت مرسي ومن معه وحتى الولايات المتحدة على «الاستسلام والرضوخ» للمعارضة الجديدة.
وكان المثال الآخر «للحلف المقدس» أو غير المقدس ما تشهده الأزمة مع قطر وقيامها بدور الحاضنة للإرهاب في أخطر مرحلة من مراحل التاريخ العربي المعاصر. وكيف ترد قطر نفسها على التهم الدامغة الموجهة إليها بـ «إغراق» الجماعات الإرهابية بكل وسائل الدعم لشحن «النضال الإرهابي»؟
إن أزمة قطر برزت كأحد روافد الحرب في سورية، لذلك فإن أي حل سيتم التوصل إليه ستكون له انعكاسات واضحة على مراحل الحل الآتي على سورية.
وفي سياق متصل، تمكن ملاحظة العلاقات بين الرئيسين الأميركي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين والسجال الدائر بين الجانبين حول الوضع في سورية خلال الأسابيع القليلة الماضية، إذ لوحظ أن واشنطن ترامب صعدت الحملة ضد سورية إذا ما استخدمت السلاح الكيماوي كما حدث قبل أسابيع عدة. وحدث توتر خطير، لكنه بقي في إطار الإعلام، عندما أعلن ترامب وبأسلوبه الاستعراضي أن سورية «رضخت» للتهديدات الأميركية وأنها لن تستخدم السلاح الكيماوي من جديد.
وفي الكلام الأخير:
بعض الصغار يعتقد أن التعامل مع بعض الكبار يؤهل الصغير أن يصبح كبيراً… في حين إن واقع الحال هو غير ذلك حيث يستغل الكبار هذه الكيانات الصغيرة لاستخدامها مطية لتنفيذ بعض المآرب المصلحية. ومن أخطر الأمور عندما يستخدَم الصغار للإساءَة إلى دول الجوار عملاً بمبدأ: لقد ضربت من بيت أبي.
واستناداً إلى كل ما تقدم، يصعب تصور استمرار مسيرة مجلس التعاون الخليجي كما كانت، فقبل نشوب «أزمة قطر» شيء وبعد هذه الأزمة أمر آخر.
لقد كشفت «أزمة قطر» وجود حالة من التدرن الخطير والمتقدم في الإصابة داخل العمل الخليجي المشترك، في شكل يصعب معها استئصال الورم الخبيث.