يوم انعقد مؤتمر الحوار الوطني اللبناني في قطر عام 2008 وأنتج حلاً للأزمة اللبنانية بعد سنتين من الفراغ الرئاسي وسنوات من التعارك السياسي وفي الشوارع والساحات، ختم رئيس مجلس النواب نبيه بري كلمته في الجلسة الافتتاحية للمؤتمر بعبارته الشهيرة: «اول الغيث يبدأ بقطرة فكيف اذا كان قطر»… وكان الغيث يومها «اتفاق الدوحة» الشهيرالذي أنتج سلطة جديدة وأنهى الفراغ الرئاسي، فهل الحراك القطري الراهن يؤسس لـ»غيث جديد» أوله قطر؟
بعد جولة الموفد الفرنسي جان ايف لودريان الاخيرة التي كانت وداعية بتأكيد كثيرين لأنّه لن يعود بعدها الى لبنان، دخل الاستحقاق الرئاسي في طور جديد فتح المجال فيه على ما يبدو امام قطر التي ترفع هذه الايام من وتيرة اتصالاتها ومشاوراتها في مختلف الاتجاهات اللبنانية، لرغبة لا تخفيها في لعب دور وساطة، كذلك الذي لعبته عام 2008 وتُوِّج بمؤتمر الدوحة الشهير الذي أنتج حلاً رئاسياً وسياسياً لأزمة اتخذت يومها الطابعين الأمني والسياسي وهدّدت البلاد بشرور مستطيرة، حيث احتدم النزاع بشدّة بين فريقي 8 و14 آذار، وكان منطلق الحل انتخاب قائد الجيش آنذاك العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، على رغم عدم توافر الشروط الدستورية المطلوبة لانتخابه، إذ تغلّبت يومها مقولة «الضرورات تبيح المحظورات» على ما عداها. لكن الأزمة استمرت على المستوى السياسي وانتهى عهد سليمان الى فراغ رئاسي دام سنتين إلى ان مُلئ في 31 تشرين الاول 2016 بانتخاب العماد ميشال عون رئيساً نتيجة تدخّل اميركي لدى المعنيين من لبنانيين وعرب، تمّ تظهيره بما سُمّي «التسوية الرئاسية» الشهيرة التي أُبرمت يومها قبل ان تنهار لاحقاً نتيجة تدهور العلاقات بين عون ورئيس الحكومة آنذاك سعد الحريري، في الوقت الذي انزلقت البلاد الى انهيار سياسي اقتصادي ومالي ونقدي ومعيشي كبير ما زال مستمراً حتى اليوم.
والآن يعمل القطريون على الإفادة من فشل لودريان والمجموعة الخماسية عموماً، محاولين التقريب بين الأفرقاء اللبنانيين المتباعدين سواءً حول مرشح رئاسي توافقي او علىى مستوى عقد طاولة «حوار» أو «تشاور» لبلورة هذا المرشح التوافقي، او الذهاب الى انتخاب رئيس بتنافس ديموقراطي. ويسجّل بعض الذين زاروا الدوحة اخيراً، انّ القطريين لا يطرحون اسماء مرشحين للرئاسة، وانما يرتكزون في مسعاهم إلى تجربتهم السابقة في اتفاق الدوحة عام 2008، الّا انّه لم تُعرف حتى الآن طبيعة موقف المجموعة الخماسية من هذا الحراك القطري الذي يتمثل حتى الآن بدعوة الأفرقاء او ممثلين لهم إلى الدوحة، للاستماع الى مواقفهم وخياراتهم حيال الاستحقاق الرئاسي، على أن يتمّ لاحقاً تحديد طبيعة الخطوات التالية، أتكون في الدوحة ام في لبنان. وأبرز الذين لبّوا دعوة الدوحة حتى الآن رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» السابق وليد جنبلاط والنائب علي حسن خليل المعاون السياسي لرئيس مجلس النواب نبيه بري، الذي كان التقى امير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني في طهران على هامش التعزية بالرئيس الايراني الراحل ابراهيم رئيسي الشهر المنصرم.
بعض الذين زاروا الدوحة حتى الآن عادوا بانطباع مفاده انّ المسؤولين القطريين يرغبون القيام بوساطة بين الأفرقاء اللبنانيين لتمكينهم من إنجاز الاستحقاق الرئاسي، ولكن الدوحة تريد بداية معرفة مدى رغبة هؤلاء الأفرقاء في التوصل إلى حل للأزمة قبل الوقوف على مدى قبولهم بالوساطة القطرية في حدّ ذاتها.
وعندما سُئل أحد الأقطاب السياسيين عن مدى قبول المملكة العربية السعودية بوساطة قطرية في الاستحقاق الرئاسي، بعدما تحدث سفيرها وليد البخاري قبل ايام امام ثلة من «أهل الفكر»عن حصول تقدّم في اتجاه انتخاب «رئيس تسوية»، اجاب هذا القطب: «انّ المملكة منشغلة الآن بكثير من القضايا المهّمة الآنية والمرحلية والاستراتيجية في المنطقة، وقد لا يضيرها إن ساهمت قطر في حلحلة الأزمة اللبنانية طالما انّ ذلك لن يؤثر على المصالح السعودية الحديثة والتقليدية التاريخية مع لبنان. الّا ان موقف بهذا المعنى او سواه لم يصدر عن الرياض بعد».
وكذلك يعتقد البعض انّ الجانب القطري فعّل حراكه ومساعيه في اللحظة المناسبة، بالتناغم على الأرجح مع الجانب الاميركي الذي يُنقل عنه هذه الايام تشجيعه انتخاب رئيس للبنان قبل الدخول في مدار الانتخابات الرئاسية الاميركية، علماً انّ واشنطن وباريس تقومان بحراك مشترك راهناً في اتجاه اسرائيل لمنعها من شنّ أي حرب واسعة على لبنان، من شأنها ان تشعل المنطقة، خصوصاً انّ لدى المسؤولين الفرنسيين والاميركيين تحذيراً ايرانياً مفاده انّ ايران «ستتدخّل عسكرياً مباشرة» في حال أقدمت اسرائيل على مهاجمة لبنان، وهذا التحذير يُقلق باريس وواشنطن على وضع في المنطقة برمته.
على انّ القطب السياسي اياه يستغرب ربط البعض بين الاستحقاق الرئاسي وبين الحرب الاسرائيلية على قطاع غزة وعلى الجبهة الجنوبية اللبنانية، ويرى انّ هذا الربط يجريه بعض الأفرقاء لرغبتهم في تأخير حسم خياراتهم الرئاسية والسياسية في المرحلة الراهنة، ولا سيما منهم أولئك الذين يشعرون انّ ظروف الاستحقاق الآن ليست في مصلحتهم، وربما يعتقدون انّ تأخير إنجاز هذه الخطوة الدستورية قد يؤدي إلى متغيّرات ما تصبّ في مصلحة خياراتهم تلك، ولكن حتى الآن ليس هناك في الأفق ما يشير الى ذلك. ويشير هذا القطب إلى انّ «الثنائي الشيعي» وحلفاءه لا يقيمون اي ربط بين الاستحقاق الرئاسي وغزة والجنوب، وانّهم جاهزون للنزول في اي وقت الى المجلس النيابي لانتخاب رئيس للجمهورية اذا توافرت كل المستلزمات السياسية والدستورية لجلسة انتخابية ناجزة.
في غضون ذلك، وجد بعض السياسيين المعنيين مباشرة بالاستحقاقات المطروحة الذين تتبعوا إطلالة رئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل التلفزيونية الاخيرة، انّه «لم يكن موفقاً» في بعض المواقف التي اعلنها سواءً في تصعيد موقفه المعارض لترشيح رئيس تيار «المردة» سليمان فرنجية، او في ما يتعلق بالوضع في الجنوب والحرب التي يخوضها «حزب الله» هناك إسناداً لفصائل المقاومة الفلسطينية في غزة وخفضاً للضغط العسكري الاسرائيلي على القطاع برمته.
وهذا الكلام، يردّده حلفاء باسيل وأصدقاؤه وحتى من هم في الموقع الوسطي في الموقف مما يجري داخلياً واقليمياً ودولياً. وفي هذا السياق، يعلّق قطب سياسي على ما قاله باسيل من انّ «حرب الإسناد» التي يخوضها «حزب الله» على جبهة الجنوب ما أفادت ولم تفد الفلسطينيين، وانّه لا يؤيّد هذه الحرب ويرفض توريط لبنان فيها، «انما يخطئ في القراءة الاستراتيجية» لهذه الحرب وأبعادها وخلفياتها واهدافها والنتائج التي حققتها حتى الآن، «ليتماهى مع الفريق الذي يتخذ الموقف نفسه تحت عنوان «عدم توريط لبنان في حرب لا تعنيه والتي قد تتطور الى درجة تعريضه لمثل ما تتعرّض له غزة على يد آلة الحرب الاسرائيلية» (حسب ما يردد اصحاب هذا الموقف).
اما موقف باسيل المعارض لفرنجية فلم يكن جديداً، فهو كان في بداية الاستحقاق الرئاسي ولا يزال يتخذ هذا الموقف، ولم تنفع كل الاتصالات والمساعي التي جرت في اتجاهه بإقناعه في تغيير هذا الموقف حتى الآن، ولكن كثيرين يعتقدون انّ الرجل سيغيّر هذا الموقف ايجاباً في لحظة سياسية ما، خصوصاً بعدما بدأ البعض يتحسس الخطر على مصير موقع رئاسة الجمهورية في حال طال الفراغ فيه واستطال في ظل عملية «تغيير الدول» التي تشهدها المنطقة والعالم. لكن البعض يستبعد ان ينزل باسيل عن شجرة موقفه العالي بهذه السهولة، ويرجحون احتمال ان يترك لأعضاء كتلته حرّية الخيار والاختيار رئاسياً، او على الاقل ان يكون المَخرَج حضور كتلة «لبنان القوي» الى مجلس النواب بما يؤمّن النصاب القانوني لجلسة انتخابية يفوز فيها مرشح حلفاء باسيل او ربما مرشح من الفريق الآخر، تبعاً لما ستؤول اليه هذه العملية الدستورية في الساعات القليلة التي ستسبق الشروع في تنفيذها.