بعد أسابيع الانشغال بزيارة الموفد الفرنسي الخاص جاء دور الانشغال بزيارة الموفد القطري للأيام المقبلة حول وساطة، تارة يقال إنها مكمّلة لباريس وطوراً إنها مستقلّة عنها أو معاكسة لها. تناقضهما الأساسي ليس الأسلوب ولا مزاج الزائر ولا المتوخّى منها، بل ما في الجعبة
حدّد الموفد القطري جاسم بن فهد آل ثاني هدفاً واضحاً لمهمته في بيروت، والمفترض أنها ستحدد مصير زيارة وزير الدولة محمد عبد الرحمن الخليفي، في ضوء ما ستسفر عنه لقاءات الأيام المنصرمة وما سيليها. كَمَنَ هدف المهمة الجديدة في قصرها على الثنائييْن اللذين يمثلان العقبتين الفعليتين أمام انتخاب الرئيس والمتعذّر الاستغناء عنهما: الثنائي الشيعي والثنائي المسيحي. الأول فريق واحد، يمثله الرئيس نبيه برّي وحزب الله، والثاني يتقاطع فريقاه مرحلياً على رفض انتخاب الوزير السابق سليمان فرنجية ولا يتفقان على أي أمر آخر سواه.
لم يزرْ آل ثاني سوى برّي والمعاون السياسي للأمين العام لحزب الله حسين خليل ورئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل ورئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع. هم المعنيون الوحيدون بمهمته الحالية الحصرية، إلى أن يتمكن من إحداث مفاجأة في وساطته تحمله بعد ذلك على توسيع نطاق لقاءاته. تعويله الفعلي على نجاحه – المتعذّر في أي حال – في إيجاد فجوة في الانقسام الدائر بين الثنائييْن المستعصييْن حتى إشعار آخر.
في ما وصلت إليه المرحلة الأولى من مساعيه، الآتي:
1 – أصغى باهتمام إلى الشرح المستفيض لبرّي وخليل حيال تمسّكهما غير المتزحزح عنه بفرنجية، وأبرزا له الأسباب التي تحملهما على دعمه والإصرار عليه. ردّ آل ثاني بإشادته بفرنجية المشهود له احترامه وجرأته وصدقيته، تبعاً لما قال، قبل أن يضيف أن الظروف تعاكس انتخابه بسبب رفض الأفرقاء المسيحيين ترشيحه، ما يقتضي الخوض في خيار بديل.
2 – خرج آل ثاني من عند باسيل وجعجع بخلاصة ما سمعه منهما عن رأييْهما في لائحة الأسماء التي حملها وضمّت ثلاثة هم في الترتيب الآتي: قائد الجيش العماد جوزف عون، المدير العام بالإنابة للأمن العام اللواء الياس البيسري والنائب نعمة افرام. من رئيس التيار الوطني الحر سمع رفضاً قاطعاً لعون، وعدم تحبيذ لافرام، وعدم ممانعة بالبيسري. من رئيس حزب القوات اللبنانية سمع قبولاً بعون، واستمهالاً في التفكير في البيسري، وتجاهل إبداء موقف من افرام.
3 – وفق ما أخطر الموفد القطري الثنائي الشيعي، فإنه ليس في وارد الاجتماع إلى فرنجية ولا إلى الرئيس السابق للحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط ولا إلى أحد من النواب السنّة. عنده أن المشكلة تكمن في الثنائييْن الشيعي والمسيحي اللذين يتحكّمان بفيتوَي انتخاب الرئيس. نصحه رئيس البرلمان بزيارة جنبلاط بدعوى أن من الواجب ما إن يصبح في بيروت الاجتماع به. أما النواب السنّة فهم في حصة الرياض. أعطى السفير السعودي وليد البخاري أخيراً في استقبال 14 أيلول في السفارة خلال وجود الموفد الفرنسي الخاص جان إيف لودريان، دليلاً ساطعاً على أن أكثر من ثلثي نواب الطائفة (21/27) تملك المملكة قرارهم. في حسبان الموفد القطري أن توصله إلى خرق في موقف الثنائي الشيعي أو أي من الثنائي المسيحي سيمنح انتخاب الرئيس جرعة تفاؤل حقيقية تمكّنه عندئذ من التشاور مع مَن استثنته جولته الأولى.
يُعوّل الموفد القطري على خرق لدى الثنائي الشيعي أو أحد في الثنائي المسيحي
4 ـ بعدما راج في الأشهر المنصرمة أن لا مرشح لقطر سوى قائد الجيش راحت تُسوّق ترشيحه لدى كل مَن قصد الدوحة أو تواصل مع سفارتها في بيروت أو في سياق اجتماعات الدول الخمس، أشاع حمْل آل ثاني لائحة بأسماء ثلاثة أن الخيارات الحالية باتت أوسع. أولها عون لكنه ليس الوحيد. لم يتردد في أن يقترح على برّي وخليل، كل على حدة، تقدمهما باسم أو اثنين سوى فرنجية وسوى الأسماء الثلاثة التي حملها هو معه كي يعمل على التفاوض عليها لدى الثنائي المسيحي، بما يتيح الاتفاق على انتخاب الرئيس أخيراً. دلّ موقفه هذا على أن لائحته المُدلاة ليست نهائية ولا حصرية، ولا كذلك أيٌّ من الأسماء الواردة فيها دائم. لم يفت بعض مَن التقاهم استنتاج اهتمامه بتسمية البيسري كمرشح محتمل. الجواب الشيعي كان نفسه: لا مرشح آخر لديه سوى حليفه فرنجية.
5 – يُنظر إلى الوساطة القطرية، وهي تتوخّى في الوقت الحاضر إضفاء مزيد من الجدية والفاعلية بعد إخفاق نظيرتها الفرنسية، على أنها تريد الاقتداء بالمحاولة التي اضطلعت بها الدوحة هذا الشهر بين الولايات المتحدة وإيران في صفقة إطلاق خمسة أميركيين محتجزين لسنوات في طهران في مقابل الإفراج عن ستة مليارات دولار لإيران مجمّدة في مصارف كورية جنوبية. انتهى المطاف بإنجاز الصفقة على الأرض القطرية بترحيل الأميركيين إلى بلادهم وإيداع المليارات الإيرانية في مصارف الدوحة. ليست الوساطة الحالية هي الأولى لقطر في استحقاق رئاسي لبناني بعد عام 2008، ولم تكن منفردة حينذاك، بل كانت جزءاً لا يتجزّأ من مبادرة للجامعة العربية أدّت إلى انتخاب الرئيس ميشال سليمان على صفيح ساخن. في ما بعد، في كانون الثاني 2011، اضطلعت بمبادرة مع تركيا لتصويب علاقة الرئيس سعد الحريري وحزب الله في خضمّ السجال الدائر من حول اتهام المحكمة الدولية الحزب باغتيال الرئيس رفيق الحريري. أخفقت الوساطة تلك بأن أطيحت حكومة الحريري الابن وكلّفته الإقصاء عن السراي الحكومي خمس سنوات. تمسي الوساطة الحالية ثالثة جهودها دونما تفرد أيضاً كجزء من مجموعة الدول الخمس.
مع ذلك أرسلت حصيلة اللقاءات الأخيرة لآل ثاني إشارات سلبية شتى إلى انتخاب الرئيس: لا تزال التسوية الإقليمية من حول لبنان مؤجّلة، لا انتخاب وشيكاً لأن الأوان لم يحن بعد.
الأهم في ما تدور الوساطة القطرية من حوله – كما من قبل سواها – أنها وقعت في فخّ الاستحقاق. مذْ أعلن رئيس البرلمان في آذار 2023 للمرة الأولى ترشيح الثنائي الشيعي الزعيم الزغرتاوي ورَفَضَه الأفرقاء المسيحيون، تبدّل المرشحون والأدوار والوسطاء الناشطون فيما المعضلة لا تزال نفسها: فرنجية المشكلة والحل معاً.