من بعيد، بإمكان المراقب أن يتصور نهاية دولة قطر خلال أسابيع. ومن بعيد أيضاً، يمكن الاعتقاد بأن الخلاصة الفعلية لقمة الرياض الأخيرة، مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب، هي تنظيم انقلاب يطيح الحكم في قطر. ومن بعيد أيضاً وأيضاً، يمكن تخيل اجتماع عمل بين المحمّدين، ابن زايد وابن سلمان، يتقاسمان خلاله الوصاية على الجزيرة العربية بكاملها.
وللأمانة، فإن المحمدين، يملكان من الطموح والجموح ما يجعل الهمس عن تقاسم النفوذ في الجزيرة حديثاً عن مشروع قائم. يفترض ابن زايد أن حصته تكون في الإمساك بإماراته، ومعها سلطنة عمان بعد الانقلاب على قابوس، والإمساك بجنوب اليمن، مقابل تولي ابن سلمان إدارة السعودية ومعها شمال اليمن وقطر والبحرين والكويت.
في التسريبات، يتحدث المحمدان عن تغييرات قريبة، تقضي أولاً بعزل حكومة قطر خليجياً وعربياً، ومن ثم ضمان قرار غربي برفع الغطاء عن «الإمارة المشاغبة»، ليترافق ذلك مع نقل القاعدة العسكرية الأميركية الأكبر من قطر إلى أبو ظبي، وإقامة قاعدة مماثلة في السعودية، وبالتالي إخضاع جميع حكومات الجزيرة لوصاية لا تتطلب مجلساً موسعاً لدول الخليج، بل مجلس إدارة يترأسه مناوبةً كل من المحمدين، ويكون الأعضاء فيه على شاكلة عبد ربه منصور هادي.
ليس أمام الدوحة إلا المراجعة الشاملة، والعودة إلى حجم طبيعي لا يتجاوز قامتها
في الجانب الآخر، ومن بعيد، تبدو قطر كأنها الحمَل الوديع المهيض الجناح، أو الضحية التي يتآمر الأقربون والأبعدون عليها، وأنها الرجل الصالح الذي يحاول رفض طغيان الأشرار في ممالك القهر السوداء. وفي حفلة العلاقات العامة، يراد لنا أن نتعامل مع قطر وكأن ما تقوم به في أكثر من مجال، وعلى أكثر من صعيد، لا يستوجب محاسبتها. والبعض يريد لنا أن تعفى قطر من المحاسبة، لأن من يتولاها هم أمراء آل سعود وآل زايد.
ليس على وجه البسيطة مَن يجهل أن حكام قطر، منذ انقلاب الأمير السابق على والده، يعانون من مشكلة جدية وكبيرة مع آل سعود، وأن مشكلتهم مع آل زايد تطورت منذ أن قررت الدوحة التصدي لعناوين «إصلاحية» ونقدية تصيب الإمارات وكل أدوارها. ثم تعاظم الأمر مع تبني قطر جماعة «الإخوان المسلمين». لكن ذلك لا يعني أن القوة التي استندت إليها قطر كانت مستمدة من الذات، أو حتى من العالم العربي نفسه. كل القصة، أن تميز قطر بدأ فعلياً لحظة الاجتماع الأول للأمير السابق بعد توليه الحكم، مع رئيس حكومة العدو في حينه، شمعون بيريز في أحد فنادق واشنطن. حصل ذلك قبل أكثر من ربع قرن، لتفتح بعدها الأبواب أمام حكام الإمارة الجدد، وأطلق لها العنان في إدارة النقاش السجالي من خلال منبر «الجزيرة». وعُهد إليها بممارسة الشغب لأجل إلزام باقي إمارات الجزيرة بالتنازل. حتى عندما وقفت قطر إلى جانب نضالات اللبنانيين والفلسطينيين ضد الاحتلال الإسرائيلي، لم يكن الأمر خارج الموافقة المباشرة والواضحة من الأميركيين، الذين قالوا مراراً للسعوديين والمصريين إنهم يريدون طرفاً عربياً يقدر على التواصل مع هؤلاء الإرهابيين!
لنفترض أن المحمّدَين قررا ــ بتغطية من بعض الأجنحة الحاكمة في الولايات المتحدة ــ عزل قطر وإسقاط حكمها، لكن قطر نفسها تراهن اليوم أيضاً على أجنحة أخرى في دول الغرب نفسه. وهناك همس قطري عن مفاجآت مقبلة، في اتكال واضح على عزل الرئيس الأميركي دونالد ترامب، بالإضافة الى أن قطر نفسها تدرس إمكانية فتح خزائنها المليئة بالأموال لشراء صمت الغرب عنها، أو لشراء تسوية يرعاها الغرب بينها وبين السعودية والإمارات. وهذا يعني أن المشكلة تتعلق بأصل الموقف من القضايا الخلافية، وليس بآليات العمل وأدواته.
بهذا المعنى، لا تحتاج قطر الى من يذكّرها بأن المحمّدَين يحتاجان الى مصح عقلي، وإلا فالخراب سيصيب شعبيهما عاجلاً وليس آجلا. لكن قطر تحتاج الى من يبرّد الرؤوس الحامية فيها، ودعوتها الى مراجعة حقيقية، وليس إلى مناورة سياسية تستهدف استدرار عطف هذا أو ذاك. حتى استعدادها لعقد صفقات مع خصوم الرياض وأبو ظبي سيظل ناقصاً ومؤقتاً وبلا نفع، لو تم من دون مراجعة جدية لدورها خلال العقدين الماضيين.
ومن الواجب تذكير القطريين بمسائل لا تستهدف الانتقاص من قيمتهم الإنسانية كبشر، بل بكونهم لا يملكون القدرات الفعلية لأجل تولي دور قيادي، ولا يملكون الإرث الديموقراطي الذي يمنحهم حق منح شهادات لهذا الحاكم أو ذاك، وهم لا يملكون الهوامش الجغرافية التي تجعلهم يظهرون رغبة في لعب أدوار أعلى بكثير من قاماتهم، وهم لا يملكون المخزون الثقافي والمعرفي والدستوري الذي يتيح لهم تقرير مصير الحكم في مصر وسوريا والأردن وفلسطين. وفوق كل ذلك، هم لا يملكون الحرية الفعلية التي تمكّنهم من ادعاء استراتيجية قابلة للحياة، ذلك أن بلاداً مثل قطر يهزها تصريح سياسي واحد صادر عن دولة كبرى، إقليمية أو دولية.
اليوم، يدور نقاش داخل قطر حول سبل مواجهة حرب المحمّدَين. وبين الأصوات من يدعو الى عدم التهور، وإلى الانحناء للعاصفة، وإلى التقشف في السياسات الاستفزازية والنقدية، وإلى الصبر والعمل على كسب رضى الكبار في العالم، وإلى تلبس دور الضحية بين العرب والمسلمين. وأصحاب هذا الرأي لديهم نفوذ قوي، لكنهم ليسوا من يحسم الأمر، ما يعني أن المواجهة القائمة داخل حديقة الخليج قد تشهد احتداماً، لمجرد أن قرر مسؤول أو مقيم في قطر رفع الصوت احتجاجاً على ما تقوم به الرياض والإمارات. وبالتالي، فإن العودة الى أصل فكرة المراجعة هي ما يتيح لهذه الدولة الصغيرة الحفاظ على رأسها في زمن المتغيرات الكبرى.