بين وزير الدفاع وقائد الجيش ملف قضائي مالي عالق لدى ديوان المحاسبة لم يُحسَم الى الآن. من غير الواضح رغم انقضاء الوقت انه في طريقه الى قول الكلمة الفصل، المُقالة في الاصل. بيد ان الاصل في الاصل هو قصة إبريق الزيت: اموال خاصة واموال عمومية. واحدة فوق القانون وواحدة تحته
يعود تعليق الملف المالي لدى ديوان المحاسبة بين الوزير موريس سليم والعماد جوزف عون الى اشهر خلت بين مماطلة وإبطاء وإصدار آراء غير ذات صفة ملزمة. يوشك عمره على سنتين، مرتبطاً بخلاف على التفسير القانوني لهبة مقدمة الى الجيش من دون مرورها بمجلس الوزراء، مع ان اجتهادات سابقة لديوان المحاسبة قدّمت أجوبة صريحة عن المرجعية القانونية للهبات. بيد ان العقدة المقيمة في الملف العالق تتجاوز الى ما هو ابعد بإزاء صندوقيْن في الجيش، أحدهما يسمى «أموالاً خاصة» لا يمر بمراقبة مسبقة او لاحقة مفتاحه في يد قائد الجيش وكذلك انفاقها، والآخر «اموال عمومية» مقيدة انها اموال الدولة تخضع لكل ما لا ينصاع اليه الصندوق الاول.المعلوم عن الاموال الخاصة انها اموال مداخيل الاندية العسكرية وأرباحها والرسوم على طوابع الطبابة العسكرية وسواها، ملحقة بمديرية القضايا الادارية والمالية كأحد اختصاصاتها ومرتبطة مباشرة بالقائد. اما الاموال العمومية فشأنها مختلف مرعية بالمادة 156 في قانون الدفاع وفي احكام قانون المحاسبة العمومية.
اول خيط التباين بين سليم وعون، قبل الوصول الى ديوان المحاسبة، عند بدء الحديث عن وصول هبة قطرية بمبلغ 60 مليون دولار الى الجيش لتوزيعها على عديده، ضباطاً ورتباء وأفراداً، بمئة دولار شهرياً لكل منهم بدءاً من رأس الهرم.
بمراسلة خطية سأله الوزير عنها وطلب الحصول على تفاصيل لعرضها على مجلس الوزراء كي يأخذ علماً بها ويقرر إنفاقها، فلم يُجب. عاود المراسلة الخطية ثانية بعد اسابيع، فلم يجب ايضاً. عندما التقيا على الاثر سأله شفوياً مجدداً عن سبب عدم اجابته عن مراسلتيْه، فرد عون ان قطر «لا تريد مرور الهبة بالدولة اللبنانية». حمل الوزير الجواب الى رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، فكان جوابه هو الآخر مطابقاً: «لا يريدها القطريون من خلال الدولة اللبنانية»، تعبيراً ضمنياً عن عدم ثقتهم بها. كتب سليم الى رئيس ديوان المحاسبة محمد بدران في 21 حزيران 2023 يطلب رأيه «في الهبة القطرية وسائر الهبات العينية للجيش واتفاقات رضائية وبيع وشراء لوازم وعتاد للجيش». في ما اورده كتابه ان «الاحكام القانونية التي ترعى قبول الهبات والتبرعات سواء كانت منقولة او ثابتة او نوعية تنحصر باسم مجلس الوزراء الذي يقرر قبولها وانفاقها بموجب مرسوم وفقاً للمادة 52 في قانون المحاسبة العمومية».
رقد طلب الرأي في الديوان ستة أشهر بلا اجوبة دونما احالته الى احدى غرفه ذات الاختصاص بوزارة الدفاع. أضحت لاحقاً عند المدعي العام لدى الديوان فوزي خميس بأن اصدر في 19 كانون الاول – للمفارقة والمصادفة في آن في اليوم الرابع لتمديد ولاية قائد الجيش سنة جديدة – رأياً برقم 56 يدعم وجهة نظر عون، المُعبَّر عنها بكتاب القائد الى الديوان قائلة ان الهبة القطرية «لم تقدّم الى الدولة اللبنانية بل الى عناصر الجبش اللبناني». ما خلص اليه خميس هو نفسه موقف عون بأن عدَّ الهبة «اموالاً خاصة» وليست «اموالاً عمومية» كي تحال الى مجلس الوزراء لنيل موافقته.
نظرية الظروف الاستثنائية صارت اختصاصاً عسكرياً جديداً؟
أُحيل رأي خميس الى الوزير مفتقراً الى قرار كان يُفترض صدوره عن رئيس ديوان المحاسبة كونه المرجعية التي خاطبها وزير الدفاع، لا الاكتفاء برأي المدعي العام غير المعني بمخاطبة الوزير، ومطالعته لا تتعدى انها رأي ليس الا. وحده قرار الديوان الذي لم يصدر هو المُعوَّل عليه.
ليست الهبة القطرية، وقد انقضت قبل وقت طويل، سوى جزء من اتفاق لم تكن الدوحة طرفاً فيه. في 20 ايار 2022 وقع سليم في اليرزة مع السفيرة الاميركية دورثي شاي في حضور قائد المنطقة الوسطى في الجيش الاميركي اتفاقاً يقضي بمساعدة عديد الجيش اللبناني بمئة دولار شهرياً لستة اشهر لكل مَن فيه. لأن الدورة الادارية للاتفاق المعقود تتطلب في الولايات المتحدة بعض الوقت الى حين السماح بانفاقها بعد المصادقة عليه لدى سلطاتها، طلبت واشنطن من الدوحة مدّ لبنان موقتاً بهبة يبدأ صرفها للفور على عديد الجيش اللبناني في ظل الضائقة الاجتماعية والمعيشية المعلومة. ولأن القانون الاميركي يمنع تسديد رواتب قوات مسلحة غير اميركية، صار الى البحث عن احد برامج الامم المتحدة كي تنفق المساعدة الاميركية من خلاله قبل الاستقرار على برنامج UNDP، الذي تولى بالفعل دفع مئة دولار اميركي شهرياً لكلٍ في عديد الجيش عبر مكاتب خاصة بتحويل الاموال.
فارق الهبة القطرية عن المساعدة الاميركية ان الاولى حصل عليها الجيش وراحت قيادته تدفعها بنفسها الى الضباط والرتباء والجنود، وهو ما افصح عنه قائد الجيش في كتابه الى ديوان المحاسبة، فيما الثانية لم تمر بالقيادة بل بمكاتب تحويل الاموال طوال ست دفعات. ذلك ما طرح اكثر من علامة استفهام اقترنت بالهبة القطرية التي هبطت على القيادة لوحدها، فيما أُعد للمساعدة الاميركية باتفاق خطي طرفاه الوزير والسفيرة. طاولت علامات الاستفهام عديد الجيش ايضاً المستفيد من الهبة الاولى ولوائحه.
ساهم موقفا وزير الدفاع وقائد الجيش المتعارضان من الهبة القطرية في تسعير خلافاتهما كانت تحتاج مرة بعد اخرى الى نقطة ماء كي تفيض الكأس بها. مذذاك توسّع الجدل المُكمّل للخلاف بإزاء إحجام ديوان المحاسبة عن ابداء الرأي المطلوب ان يُدلي به رسمياً تبعاً للاصول المتبعة، والخوص في استرجاع اجتهادات مناقضة لرأي خميس:
1 – تمر علاقة الدولة اللبنانية مع اي دولة اخرى بمجلس الوزراء صاحب صلاحية قبول الهبات النقدية والعينية باسمها بمرسوم متى تجاوزت قيمتها 250 مليون ليرة لبنانية، عملاً بالمادة 52 في قانون المحاسبة العمومية.
2 – يحدد مرسوم مجلس الوزراء وجهة إنفاق الهبة وفقاً لرغبة الواهب عند الاقتضاء، او وفق ما يقرره المجلس حيال هبة غير مقيّدة بوجهة انفاق محددة.
3 – تبعاً لرأييْن سابقيْن لديوان المحاسبة رقم 26 مؤرخ 12 ايار 1999 ورقم 42 مؤرخ 9 ايلول 1999 ثبّتا قاعدة اخضاع الهبات لموافقة مجلس الوزراء. تناول الرأي رقم 26 برئاسة القاضي عفيف المقدم هبة مقدمة من الاتحاد الاوروبي بقيمة 480 الف دولار اميركي، وخلص الى القول «يقتضي قبول الهبة بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء وليس بقرار يصدر عن المجلس. كما يقتضي ان ينص المرسوم على فتح اعتمادات بقيمتها في قسم النفقات باعتبار ان لهذه الهبة وجهة انفاق حددها الاتحاد الاوروبي». الرأي الثاني رقم 42 برئاسة القاضية حنيفة صبرا تناول الصيغة القانونية الواجبة لقبول الهبات النقدية والعينية، وخلص الى «بما ان لكلمة الاموال الواردة في متن المادة 52 مفهوما شاملا يشمل كل العناصر التي تتألف منها الثروة وتكون موضوعاً للحقوق، وبما ان الهبات العينية تكون في ضوء ذلك داخلة في مفهوم الاموال ويقتضي بالتالي لقبولها استصدار مرسوم وعدم الاكتفاء بقرار من مجلس الوزراء».
4 – عملاً بالمادة الثانية في قانون المحاسبة العمومية، الاموال العمومية هي اموال الدولة والبلديات والمؤسسات العامة التابعة للدولة او البلديات واموال سائر الاشخاص المعنويين ذوي الصفة العمومية. مؤدى ذلك ان الهبة القطرية ارسلت الى الدولة اللبنانية بهدف تسيير مرفق عام هو الجيش، ما يقتضي اتباع الاصول القانونية في قيد الهبات.
5 – الاكثر مدعاة للانتباه في ما تناوله رأي خميس بقوله ان التدابير التي اتخذها قائد الجيش (الى الهبة اتفاقات التراضي وشراء لوازم وعتاد للجيش)، داحضاً ارتكابه اي مخالفة، «متوافقة مع الاصول ومشروعة ومباحة ومبررة ومناسبة مع حجم التحديات والظروف الاقتصادية والسياسية والاستثنائية». أدهى ما في هذا الاستنتاج منح قائد الجيش صلاحية قانونية في استنساب مفهومه للظروف الاستثنائية وبناء قرارات عليها في قضايا ادارية لا تمت بصلة الى صلاحياته ووظيفته على رأس الجيش، في الاصل هي مهمة القضاء. يضاعف ذلك التوسّع في تفسير نظرية الظروف الاستثنائية وتعميم تدابير وارتكابات باسمها وتبريرها بما يتجاوز القانون نفسه وسيادته والاجتهاد في تقدير المصلحة العامة كلٌ بحسب ما يرتأي.
ما فعله مجلس الوزراء اخيراً في تعيين رئيس للاركان غدا انموذجاً للاقتداء بالاستنساب والاعتباطية.