أسباب كثيرة تُعطي التحرّك القطري في اتجاه لبنان لاستكشاف أي مبادرة أو اقتراح في شأن المخرج من أزمة الفراغ الرئاسي، أهمية وجدّية في سياق هذا الازدحام في التحرّكات الخارجية القائمة من أجل تسوية ما في هذا الصدّد.
فضلاً عن أنّ للجهود القطرية سوابق عدة في لبنان، من أبرزها الدور الذي أدّته خلال الحرب الإسرائيلية على البلد عام 2006، واستضافتها مؤتمر الحوار بين الفرقاء اللبنانيين في الدوحة عام 2008 والذي خرج بالاتفاق الشهير على إنهاء «حزب الله» احتلاله بيروت، وبحصوله مقابل ذلك على الثلث المعطل في الحكومة، الذي استخدمه بعد سنتين للانقلاب على فوز قوى 14 آذار بالأكثرية في انتخابات 2009، لإسقاط رئيس الحكومة آنذاك سعد الحريري. في حينها شمل النص الرسمي لاتفاق الدوحة تعهداً بعدم إسقاط الحكومة، لكنّ «الحزب» وحلفاءه فعلوا ذلك بافتعال ذريعة «الشهود الزور» في تحقيقات الادّعاء العام في المحكمة الدولية الخاصة بمحاكمة المتهمين بجريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري.
يفترض المرء أن يكون أرشيف وزارة الخارجية القطرية قد وثّق كيف أنّ حجّة «الشهود الزور» اختفت كلياً بعد ساعات من استقالة وزراء «الثنائي الشيعي» وحلفائه، ومنهم وزراء العماد ميشال عون، في أوراق الوساطة المشتركة آنذاك، لوزيري الخارجية القطري حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني، والتركي أحمد داوود أوغلو، لإعادة تكليف الحريري، لكنهما فشلا… بقرار إيراني- سوري، كان موجّهاً ضد دور المملكة العربية السعودية في لبنان. منذ ذلك الحين شهدت الساحة حرباً من محور «الممانعة»، على النفوذ السعودي.
كما يفترض المرء أن يكون وزير الدولة القطري للشؤون الخارجية محمد عبد العزيز الخليفي راجع أرشيف الوزارة، أو أنّه يعرف ما جرى في تلك الحقبة بالتفصيل، قبل أن ينتقل إلى بيروت، مستطلعاً ما يمكن للدوحة أن تبذله من جهود لإحداث اختراق يعالج المأزق الرئاسي.
في خلفيات الدور القطري هذه المرة عوامل جديدة قديمة. فهو أولاً سبق أن انغمس في متابعة تفاصيل الأزمة الراهنة منذ تأزّم الوضع في البلد في عهد الرئيس السابق العماد ميشال عون. لكنه اعتمد سياسة حذرة جداً في التعاطي مع العهد الرئاسي السابق رغم علاقته به وبرئيس الظل جبران باسيل، حتى في عزّ الخلاف مع المملكة العربية السعودية، فامتنع عن تلبية طلبه «التبرّع» بوديعة في المصرف المركزي كي تصمد الليرة بعض الوقت (قبل انفجار الوضع الداخلي خريف 2019)، نظراً إلى إدراكه أن أصل الأزمة سياسي قبل أن يكون مالياً واقتصادياً.
لكن قطر قدّمت هبة للجيش اللبناني والقوات المسلحة اللبنانية بقيمة 65 مليون دولار أميركي لدعم رواتب العسكريين المتآكلة بهبوط قيمة سعر صرف الليرة، أسوة بالذي قدّمته الولايات المتحدة. وتقرّر تأجيل إنفاقها على العسكريين، بعد نفاد قيمة الهبة الأميركية. وتقدّم الدوحة مساعدات إنسانية طبية وغذائية بكثافة منذ انفجار المرفأ في 4 آب 2020.
وهو ثانياً يتحرّك على الصعيدين الإقليمي والدولي بتنسيق وثيق مع القيادة السعودية منذ المصالحة معها مطلع 2021، ويشترك معها في عضوية الاجتماع الخماسي الذي يضمّهما إلى فرنسا والولايات المتحدة الأميركية ومصر، والذي التأم في باريس في 6 شباط الماضي. وهو ثالثاً واكب المصالحة السعودية الإيرانية، إذ بقي يؤدي دوراً مع إيران، وإن كان دور سلطنة عُمان بارزاً سواء بين واشنطن وطهران في الملف النووي، أم بين الأخيرة والرياض في شأن اليمن. ولذلك الدوحة ليست غريبة عن جانب مما سبق الاتفاق التاريخي الذي رعته بكين بين السعودية وإيران في العاشر من آذار الماضي، وبعض عناوينه المعقدة.
والجانب القطري رابعاً، بقي على صلة مع «حزب الله»، حيث تردّد أن وفداً قطرياً زار بيروت قبل أسابيع، بعيداً من الأضواء والتقى قيادة «الحزب» في سياق استكشاف بعض الأمور التي قيل إنها تتعلق بدور «الحزب» داخلياً وخارجياً. ولم ترشح معلومات عن تلك الزيارة.
ومن نافل القول خامساً، إن الدوحة تنسّق مع الولايات المتحدة في شأن لبنان مثلما تنسق معها على صعيد الأزمات الإقليمية الأخرى.
العارفون بجانب من التحرك القطري، وبأهمية العوامل الخمسة المذكورة، يشيرون إلى أنّه إذا لم تواصل الدوحة تبني ترشيح قائد الجيش العماد جوزيف عون، فإنها يمكن أن تمهّد لطرح اسم أو أسماء بديلة، غير محددة حتى اللحظة، عطفاً على ما تسرّب أمس عن أن الوزير الخليفي لم يطرح أسماء في مداولاته بل كان في معظم الأحيان مستمعاً بعد الحضّ على تسريع انتخاب الرئيس وتكرار المواصفات المعروفة التي يطالب بها المجتمع الدولي والدول العربية.
يفهم البعض تحرّك الوفد القطري على أنه استطلاعي، لأن الدوحة تعتبر أن «كل شيء بوقته، وله وسائله»، وبالتالي لم يحن توقيت عرض الحل للأزمة في لبنان، ما يتطلب التريّث في الاستنتاجات حول مهمته.