يسود اقتناع في بعض الأوساط السياسية، بأنّ انتقال الوساطة في لبنان من المرحلة الفرنسية إلى المرحلة القطرية، يعني تغييراً في اتجاهات التفاوض، لكن الهدف يبقى نفسه.
في السابق، كان ينصبّ اهتمام الفرنسيين على محاولة إقناع المملكة العربية السعودية بالاقتراب من الطرح الإيراني. وقد أبدى السعوديون مقداراً من المرونة في هذا الاتجاه، لكنهم طالبوا إيران بملاقاتهم إلى منتصف الطريق، فلم تفعل. ولذلك، فشلت مهمّة باريس في لبنان.
اليوم سيقوم القطريون بتجربة معاكسة: سيحاولون إقناع إيران بالاقتراب إلى حدّ معين من طروحات أركان اللجنة الخماسية لإمرار التسوية. ولتحقيق ذلك، سيستفيدون من علاقاتهم الجيدة مع إيران، ومن خبرتهم القديمة في رعاية الوساطات معها.
أي، يقوم القطريون اليوم بإكمال المهمّة التي أداها الفرنسيون. وبذلك، تكون الوساطة الفرنسية مستمرة عملياً، من خلال الوسيط القطري، كما هي من خلال جان إيف لودريان العائد قريباً إلى بيروت، قبل أن ينصرف إلى موقعه الوظيفي الآخر في المملكة العربية السعودية، ضمن مشروعها الإنمائي الطموح للعام 2030.
سمة الإيرانيين أنّهم غالباً لا يعبّرون عن مواقفهم الحقيقية على أَلسِنة مسؤوليهم، سواء في لبنان أو في اليمن أو سوريا أو العراق. وهذا يناقض سلوك السعوديين الذين يعبّرون من خلال مسؤوليهم وسفراء المملكة عن مواقفها.
الإيرانيون يتركون لحلفائهم الممسكين بالسلطة والنفوذ في لبنان أن يعبّروا في شكل غير مباشر عن موقف طهران. وبهذا الأسلوب هم يستطيعون الاحتفاظ لأنفسهم بهامش واسع من المرونة في المفاوضات. كما يترك الإيرانيون جزءاً كبيراً من مواقفهم غامضاً أو مستتراً، بهدف إبقاء المجال واسعاً للمناورة.
بالخبرة، يدرك القطريون كيفية التعاطي مع طهران. وهم يراهنون على النجاح في التوفيق بين المصالح السعودية والإيرانية، خصوصاً أنّ اتفاق بكين أزال مناخ الخصومة التقليدي بين الجارتين المسلمتين. ويطمح القطريون إلى تتويج مهمّتهم بإعلان تسوية سياسية جديدة في لبنان، من خلال مؤتمر يكون «الدوحة 2»، ومهمّته تغطية متطلبات المرحلة لبنانياً، أي خلق حال من الاستقرار السياسي والأمني والاقتصادي، تشكّل أرضية مريحة للانطلاق في مشروع استخراج الغاز والنفط من المياه اللبنانية، بدءاً بتجربة البلوك 9، التي يُفترض أنّها باتت أمام امتحان حسّاس، بعد أسابيع قليلة.
في تقدير بعض الخبراء، أنّ إيران يمكن أن تفكّر في إجراء مقايضة مباشرة مع المملكة العربية السعودية دون سواها في بعض الملفات، كاليمن مثلاً، لأنّه يشكّل خصوصية استراتيجية للسعوديين والخليج عموماً.
ولكن، في لبنان الذي يشكّل رأساً للهلال الشيعي، حيث التماس مع إسرائيل ومصالح الولايات المتحدة والغرب أيضاً، قد لا يجد الإيرانيون أنّ المملكة العربية السعودية هي الطرف الأول المعني بإبرام الصفقة معه.
ولذلك، يُفترض بالوسيط الإيراني في شأن لبنان أن يُطلق مروحة مفاوضات متعدّدة الأطراف مع إيران، تشمل مسائل سياسية وأمنية واقتصادية، وربما تتضمن مقايضات في العديد من المواقع، من لبنان إلى سوريا والعراق فاليمن.
وعملياً، ستكون مفاوضات القطريين مع إيران بالنيابة عن الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية، وفي الموازاة، هم سيجهدون لضمان مصالح فرنسا في التسوية اللبنانية، نظراً إلى خصوصية العلاقة التي تربطها بلبنان، وإلى المصالح التي تمثلها. ولذلك، تحظى الوساطة القطرية بدعم أركان اللجنة الخماسية الخاصة بلبنان، إضافة إلى إيران، ما يعني أنّ الخلية التي تتولّى الإعداد للتسوية في لبنان باتت واقعياً تضمّ ستة أركان، بشمولها إيران، ولو عن بُعد.
وثمة اعتقاد بأنّ للمبادرة القطرية حظوظاً في النجاح، تفوق تلك التي يتمتع بها الفرنسيون، نظراً إلى الرصيد الذي تحظى به الدوحة لدى المفاوضين جميعاً، من إيران إلى الولايات المتحدة مروراً بالسعوديين والفرنسيين. لكن التوصل إلى نتائج عملية مرهون باقتناع الأطراف الأقوى نفوذاً، بأنّ مصالحها قد باتت مضمونة. وهذه الوضعية لا تبدو ناضجة حالياً أو قيد النضج في المدى المنظور.
عموماً، هناك تقاطعات واضحة بين أركان اللجنة الخماسية حول التسوية السياسية في لبنان، أي تركيبة السلطة ومواصفات رئيس الجمهورية العتيد والحكومة ورئيسها وبرنامجها، لكن الهوة باقية مع إيران التي تمتلك عملياً مفتاح التسوية. ويعبّر عن هذا الموقف «حزب الله» الذي يبدي الاستعداد للمرونة، لكنه حتى اليوم لم يكشف عن أي تبديل في مرتكزات موقفه السياسي المعلن. ويعتبر البعض أنّ هذا الموقف يكرّس «ستاتيكو» المراوحة في لبنان إلى أجل غير مسمّى، أي إلى حين بروز معطيات جديدة على خطوط التفاوض الكثيرة المفتوحة في الشرق الأوسط، في اتجاهات مختلفة:
من الحوارالسعودي- الحوثي حول مصير اليمن، إلى التطورات المتعلقة بمستقبل سوريا، إلى «الحوار الناعم» الشامل بين طهران وواشنطن، إلى الشروط التي تتمسّك بها المملكة العربية السعودية للقبول بالتطبيع مع إسرائيل. وهذا الانتظار، إذا طال كما هو متوقع، سيكون متعباً وموجعاً في لبنان، حيث الانهيار يتعمّق منذ 4 سنوات، بل أكثر بكثير.