في حرب تموز، كان تبادل الأدوار واضحاً بين حزب الله والتيار الوطني الحر. قاتل الأول ميدانياً والثاني سياسياً. اليوم، يخوض الحزب والتيار معركة مشتركة: يجابه حزب الله عسكرياً التكفير الجسدي، فيما يجابه التيار سياسياً «التكفيريين الزرق»
لعلها مجرد مصادفة: من جنّ جنونهم لمقتل شيخ دجّج سيارته بالأسلحة ورفض التوقف عند حاجز للجيش، برروا بوسائل مختلفة تفجير التكفيريين للسيارات. تجاهلوا قتل هؤلاء وخطفهم عشرات العسكريين، وشنوا حملة تلو أخرى على ضباط أساسيين في الجيش، مواكبين تصعيد الانتحاريين ضد حزب الله بتصعيد سياسي وإعلامي. يشهّر النائب أحمد فتفت بضباط في الجيش، متهماً أحدهم بإدخال هاتفه الخلوي إلى غرفة القضاة في المحكمة العسكرية لتلقي التعليمات من مسؤول سياسي أو أمني في حزب الله، من دون أن تستنفر قيادة الجيش للدفاع عن سمعة ضباطها. في شريعة تيار المستقبل، يمنع على القضاء، مدنياً كان أو عسكرياً، إصدار حكم لا ينسجم مع مصلحته السياسية. سابقاً، منع القضاء اللبناني من إعلان براءة الضباط الأربعة وإطلاقهم حتى ألزمته المحكمة الدولية بذلك؟ وفي شريعة المستقبل، أيضاً، ممنوع إقرار قانون انتخابي أو إجراء انتخابات نيابية لا يضمن حصوله بموجبها على 90 في المئة من مقاعد الطائفة السنية و50 في المئة من المقاعد المسيحية.
كذلك يُمنع تعيين أي موظف سني، من الحاجب إلى رئيس الحكومة، لا يسمّيه المستقبليون شخصياً. فيما ممنوع تعيين أي موظف مسيحي، من الحاجب إلى رئيس الجمهورية، لا يكونون شركاء في تسميته. في «الدولة المستقبلية» يمنع انتخاب رئيس يحظى بتمثيل وازن في مجتمعه وبعض الاحترام، ويكفّر كل من يطالب باحترام أصول المحاسبة المالية وإقرار الموازنات والتدقيق بالحسابات وغيره، لأن صدقية وزراء المستقبل أعظم من أن تطالب بتفسير.
بالنسبة إلى تيار المستقبل، ليس مسّاً بالدستور التمديد للمجلس النيابي وعدم إلغاء الطائفية السياسية والتنازل عن «أراض لبنانية لـ»داعش» و»النصرة» وعدم استحداث مجلس شيوخ، وانتخاب قائد الجيش رئيساً للجمهورية خلافاً للدستور، وعدم احترام المواد التسع المتعلقة بمالية الدولة وغير ذلك. أما دعوة ميشال عون إلى استفتاء شعبي، فهي تجديف دستوري يستدعي قرع النفير. فها هو، مثلاً، عضو كتلة المستقبل، أو وارث أبيه في رئاسة حزب الوطنيين الأحرار، دوري شمعون يصف الدعوة إلى الاستفتاء بـ»المهزلة»، متسائلاً عمّا إذا كان الجنرال يعتقد أنه في مزرعة ورثها عن أبيه! أما النائب عمار حوري، فيرى في الاستفتاء «تهديداً للنظام السياسي بالكامل»، أما إبقاء الدولة من دون موازنة ومن دون رادع فعلي لجنون التكفيريين ومن دون قانون انتخابي عادي ومن دون انتخابات نيابية ورئيس جمهورية فحفظٌ لهذا النظام السياسي.
في شريعة «داعش»، يخيّر الكفار بين مبايعة الخليفة أو بذل الجزية أو الموت. أما في شريعة المستقبل، فيخير اللبنانيون بين التسليم لتيار المستقبل بكل مواقع السلطة وخيراتها أو الاستغناء عن كل كرامتهم.
قبل بضعة أشهر، كان الوزير جبران باسيل مقتنعاً بأن في وسعه اختراق هذا الفكر المستقبلي. راهن على توطيد العلاقات الشخصية وليونته في مجلس الوزراء وتبادل الـ»مسجات» لإحداث تحول في عقل المستقبل. ذهب باسيل، عاماً كاملاً، في ظنونه. راهن على اقتناع المستقبل بقدرتهم على حكم البلد بطلاقة أكبر في حال إراحته بتفاهم سياسيّ حقيقي بدل الاستمرار بالخروج من دائرة فارغة للدخول في أخرى. كأنه لا يعلم أن مبدأهم ثابت: نحصل على كل شيء أو لا يحصل أحد على شيء. لم تكن ردة فعل تيار المستقبل الطرابلسية على تعيين نجيب ميقاتي رئيساً للحكومة مجرد تفصيل: إما تكون رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة والمجلس النيابي والمؤسسات الأمنية والقضائية والمصرفية والإدارات كما يريدها سعد الحريري أو لا تكون. هناك من يعتبر البلد واحة ورثها عن والده، يربط فيها ناقاته حيثما يريد.
الحرب مع التكفيريين بقاعاً وفي العمق السوري واضحة المعالم. أما الحرب السياسية فأكثر تعقيداً. لكن من يتجنب الحسم الكامل ميدانياً يتجنبه سياسياً أيضاً. وكما يستنفد الحزب، قبيل كل معركة عسكرية، الحلول السلمية وتوفير مخارج ومحاولة الاستعاضة عن العمل العسكري الكبير بضربات موجعة وخاطفة، يخوض حليفه المعارك السياسية بالطريقة نفسها. ما يفعله العونيون منذ عام هو استنفاد الحلول السلمية على مرأى ومسمع من جميع اللبنانيين: قدموا لتيار المستقبل كل التطمينات اللازمة لقبوله بالشراكة الحقيقية في السلطة، اخترعوا المبادرة تلو الأخرى علّ التعنت المستقبلي يلين، لحقوا المستقبل إلى باب معراب وبكفيا وذكرى الرئيس رينيه معوض. إلا أن الحريري يرفض النقاش: لن يتنازل عن المكاسب التي أعطاها النظام السوري لوالده إلا بطلب من أوصيائه الإقليميين. يرتضي الحريري لنفسه البحث في تسويات في الطائف وباريس ثم الدوحة فدمشق، فيما يرفض البحث الجديّ عن حلول مع عون أو غيره.
استنفذ العونيون منذ عام الحلول السلمية على مرأى ومسمع اللبنانيين
ما فعله التيار الوطني الحر عبر وفوده النيابية ويواصله اليوم يكاد يكون أهم من المؤتمر الصحافي لعون الجمعة الماضي. فالرجل المتهم بعرقلة انتخاب رئيس والذي يسعى المستقبل والقوات وأمل والكتائب والتقدمي إلى عزله تحوّل، بسحر ساحر، إلى صاحب مبادرة حقيقية تشكل المتنفس الجديّ الوحيد للاستحقاق الرئاسي. لعل رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع يناور كعادته، إلا أن موافقته على مطالبة العونيين بقانون انتخابي عادل وإعطاء الجنسية للمغتربين ليست مجرد تفصيل، بل خروج صارخ عن تمسك المستقبل بتأخير القانون الانتخابي إلى ما بعد انتخاب الرئيس. ربما تراجع جعجع عن مواقفه، كما فعل دائماً، إلا أن حماسته لمبادرة الجنرال كانت لافتة بالنسبة إلى أعضاء الوفد العونيين، وهو بادر إلى البحث في إجراءاتها التقنية، مقدماً اقتراحات لضمان التزامها بالدستور. أما رئيس حزب الكتائب أمين الجميّل، فكان خلال استقباله العونيين أول من أمس إيجابياً بمقدار سلبيته أمس، غداة زيارته الرئيس نبيه بري. ذهب في إيجابيته حد السؤال عما يحول دون تعديل المبادرة بحيث يذهب الزعماء المسيحيون الأربعة إلى المجلس النيابي ليلزم أعضاؤه باختيار واحد منهم. ولا شك أن التزام الكتائب اقتراحاً من هذا النوع، بمعزل عن وهم الجميّل باختيار أغلبية القوى السياسية له إذا خيرت بين الزعماء الأربعة، يمثل انتصاراً للتيار. والانتصار الأكبر هنا هو رؤية النائب إبراهيم كنعان يستفيض في تبرئة التيار من تهمة تعطيل الاستحقاق الرئاسي وشرح الجهود العونية لتوفير مخرج رئاسي من على منبر بكركي ومعراب والصيفي، محاطاً بأعلام القوات والكتائب.
لم تكن إشارة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، في خطابه الأخير، إلى وجوب تعامل القوى السياسية مع مبادرة عون بجدية مجرد موقف عابر: نصيحة السيد تتقاطع مع قراءة عون الصائبة منذ أكثر من عشر سنوات لكل التطورات السياسية والعسكرية المحيطة به. عون حاسم اليوم بحتمية إنهاء التكفير السياسي الذي يصادر نصف التمثيل النيابي والوزاري المسيحي ويعطي حزب الله وزارتي الصناعة وشؤون مجلس النواب، فيما يحتفظ لنفسه برئاستي الجمهورية والحكومة ووزارات الدفاع والداخلية والعدل والاتصالات والشؤون الاجتماعية والسياحة والمهجرين والإعلام. من يدقق في أداء القوى السياسية في الأعوام العشرة الماضية، يلاحظ أن عون عضّ على قبول حزب الله بانقلاب المستقبل والتقدمي على التحالف الرباعي، ورضخ لرفض الحزب التصرف كمنتصر على إسرائيل وعملائها بعيد حرب تموز، ووافق على مضض على انهزامية حزب الله في الدوحة. لكن استمرار الحزب بقبول نظام الذمية السياسية لن يكون مقبولاً بعيد هزمه التكفيريين، لا من قبل حليفه العونيّ ولا من قبل جمهوره.
من يتابع بدقة تيار المستقبل يلحظ أنها حرب واحدة، تلك التي يخوضها التكفيريون في جرود عرسال و»حلفاء الثوار» في بيروت، كما هي حرب واحدة تلك التي يخوضها حزب الله في القلمون والعونيون في بيروت.