نطقَ العدل وأصدرَت المحكمة العسكرية الدائمة برئاسة العميد الركن حسين عبدالله أحكامها بحقّ المتهمين في قضية أحداث عبرا التي وقعَت في 23 حزيران 2013 واستشهد خلالها اكثر من 18 عنصراً من الجيش اللبناني. فطلبَت المحكمة الإعدام لإمام مسجد بلال بن رباح الشيخ أحمد الأسير، والأشغالَ الشاقة 15 سنة لفضل عبد الرحمن شمندر المعروف بـ»فضل شاكر»، الذي يُحاكم غيابياً، وتجريده من حقوقه وتغريمه 800 ألف ل.ل.
«إنْ كان للباطل جولة فللحقّ ألف جولة»… ردَّدها مراراً أهالي شهداء الجيش في معركة عبرا، الذين واظبوا على حضور جلسات محاكمة الشيخ أحمد الأسير وأتباعه في المحكمة العسكرية الدائمة، والتي تخطّت الثلاثين. أمس كان شهداء الجيش من عليائهم يترقّبون العدالة الأرضية، فيما الدماء في عروق أهاليهم تغلي وأعصابُهم مشدودة.
في التفاصيل….
ليلة استثنائية عاشتها المحكمة العسكرية ومحيطها… إستنفار أمني، تدابير مشدّدة، تعزيزات عسكرية، ساعات وتبدأ جلسة الحكم على الاسير. منذ الخامسة صباحاً في محيط مبنى المحكمة وقبالته ممنوع الوقوف ولا حتى المرور، أشرطة صفراء على طول الطريق، الجيش متأهّب بكامل جهوزيته وعتاده. «ممنوع الاقتراب»، التعليمات واضحة، أمّا وسائل الإعلام وأجهزة النقل المباشر فقد خُصّصت لها زاوية على بُعد أمتار.
وعند الساعة الحادية عشرة إلّا ربعاً، افتتح العميد حسين عبدالله الجلسة، يُعاونه القاضي المدني محمد درباس وفي حضور ممثّل النيابة العامة العسكرية القاضي هاني حلمي الحجار.
عن شمال قوس المحكمة توزَّع الصحافيون والمحامون، وعن يمينه في القفص وقفَ المتّهمون، فيما جلس الاسير في المقعد الخامس مرّةً يمشّط لحيته بأنامله، ومراراً يفرك يديه.
بدأ عبدالله بتعداد المتّهمين ووكلائهم، متأكّداً «إذا الكلّ موجود»، ثمّ عيَّن محامياً عسكرياً للدفاع عن الاسير ومحمد وهبي بسبب غياب وكلاء الدفاع عنهما.
بعد تلاوة القرار الاتّهامي، وإعطاء الكلام للنيابة العامة التي اعتبَرت أنّه «لم يستجدّ أيّ عنصر جديد على الملف»، توالت تباعاً مرافعات وكلاء الدفاع مرفقةً بكلمة أخيرة للمتّهمين.
نادى عبدالله «أحمد محمد هلال الأسير الحسيني»، فاقترَب من القوس مرتدياً عباءةً لونُها أزرق سماوي، وعلى وجهه نظارات طبّية «عضم» أسود عريض، معتمراً قلنسوةً بيضاء، وبدت لحيته التي غزاها الشيب اطولَ من أيّ مرّة ظهر فيها.
وما إن وقفَ أحد المحامين العسكريين الذي عيّنته المحكمة للترافع عنه حتى خاطبَه الأسير بنبرة حادّة:
• الأسير: «أنتَ لا تمثّلني، أنا لا أعترف بك ولا بمن عيّنك، هذه المحكمة خاضعة لهيمنة إيران وحلفائها، والأشرف لك ألّا تترافعَ عنّي». فقاطعه عبدالله قائلاً: «عمْ تهدِّد؟»، فردّ الأسير: «أنا لا أهدّد لكن من حقّي أن أنصح من وكّلتموه نيابةً عنّي ألّا يتكلم بإسمي». وأضاف: «معَينِينو عنّي وما بدّي وجّهلو نصيحة؟». فردّ عبدالله: «نصحتو؟ إيه عال».
ثمّ أخذ وكيل الاسير الكلامَ ليترافع عنه، مستنداً إلى ورقةٍ صغيرة بين يديه، فاعتبَر «انه لم يثبت من خلال التحقيقات أنّ الاسير أطلقَ النار شخصياً على الجيش، ما يستتبع إبطالَ التحقيقات بحقّه من جرم المادة 549 عقوبات (عقوبتها الإعدام) وأنّ فعله ينطبق على المادة 560 من القانون نفسه ومنحه أوسعَ الأسباب التخفيفية». بعدها أعطيَ الكلام للأسير، فقال: «أعيد وأؤكّد أنّ كلّ ما يصدر عن المحكمة باطل، وهي باطلة، لا أعترف بها، والمحكمة سياسيّة بامتياز».
«ضيف» المحكمة
وتوالت تباعاً المرافعات عن الموقوفين، إذ حاوَل المحامون إسقاط التهَم عن موكّليهم مؤكّدين أنّ نيّة الاقتتال مع الجيش والقيام بأعمال إرهابية لم تكن واردة إنّما وليدة لحظة، ولم تكن مدبّرة.
وحرصَ معظمهم على تقديم نسخة عن القرص المدمج الذي يحمل الشريط الذي «يُظهر مشاركة عناصر من «حزب الله» في المعركة»، مؤكّدين «أنّ الحزب هو من أشعلَ الشرارة الأولى بدليل إطلاقِه النار من شقّة مقابلة للحاجز على عناصر الجيش اللبناني، وهذه الشقّة لم تكن مقابلة لمسجد بلال بن رباح»، إلّا انّ هيئة المحكمة اكتفت بأخذ النسَخِ من دون وضعِها في المناقشة العلنية.
أمّا السؤال الموحّد الذي وجّهه عبدالله الى المتهمين تباعاً، بعد انتهاء كلّ مرافعة، فكان: «شو بتطلب؟».
معظم المتّهمين أجمعوا على البراءة، أمّا خالد عامر الملقّب بـ«الكيماوي»، فأجاب: «ريّس بطلب عدالتك، تذكّر في آخرة يا حضرة القاضي». وبينما كان يستدير عائداً إلى القفص، قال القاضي درباس مستشهداً بآية قرآنية: «أتأمرون الناس بالبِرّ وتنسون أنفسَكم»، وعلّق متوجّهاً إلى خالد: «يعني وعاظ حالك».
وبينما كان المتّهمون في قفص الاتّهام ينتظرون دور مرافعتهم تباعاً، والاسير يترقّب بعينين جاحظتين مجريات الجلسة، استرعى انتباه الحاضرين دخولُ أحد الأمنيين ليلتقط الصوَر بكاميرا خاصة، ممّا أثار تعليق الحاضرين: «خَلص اليوم الحكم، اليوم الجلسة الاخيرة والصوَر للأرشيف»، «كاميرا ضيفة الشرف ع أساس ممنوع التصوير».
«من الإعدام ونزول»
إستمرّت المرافعات حتى الأولى بعد الظهر، فيما أهالي الموقوفين على بُعد أمتار من المحكمة يطلِقون الهتافات، منها: «ياحسين عبدالله خاف من الله»، «لا إله إلا الله والاسير حبيب الله»، «سجِّل سجِّل يا تاريخ السنّية كتار كتار». بعدها رُفعت الجلسة للمذاكرة وإصدار الحكم.
وعند السادسة إلّا عشر دقائق مساءً، خرج العميد عبدالله من غرفة المذاكرة، فيما الفضول يَعلو محيّى الصحافيين، فبادرَهم بأوّلِ تعليق له «في من الإعدام ونزول، والبعض تمّ الاكتفاء بمدة توقيفِه بعدما أمضى محكوميتَه».
وبعد 10 دقائق فُتِحت أبواب قاعة المحكمة العسكرية الدائمة مجدّداً ودخل المحامون والصحافيون، وفي غياب جميعِ الموقوفين الذين أعيدوا إلى السجن، أعلنَت «العسكرية» الأحكام، وأبرزُ ما تضمّنته: 9 أحكام إعدام لكلّ مِن: أحمد الاسير (إعدام)، امجد الاسير (غيابي اعدام)، فادي البيروتي (غيابي إعدام)، حسين ياسين (إعدام)، عبدالباسط بركات (إعدام)، خالد عامر (إعدام)، محمد صلاح (إعدام)، محمد هلال النقوزي (غيابي إعدام)، أحمد سعد الدين الحريري (إعدام).
وبالتزامن مع صدور الحكم قطعَ أهالي المحكومين طريقَ ساحة النجمة في صيدا وانطلقوا بمسيرةٍ سيراً في اتّجاه مسجد بلال بن رباح، وسط تدابير أمنية وإجراءات مشدّدة للجيش في شوارع صيدا.
وفي أوّل تعليق له، لإحدى المواقع الإلكترونية قال فضل شاكر: «الذي تعامل مع الاحتلال الاسرائيلي تمّ حكمُه سنتين فقط، والذي قتَل رفيق الحريري لم يجرؤ أحد على حكمه أو إلقاء القبض عليه، والذي فجّرَ مساجد طرابلس حُر طليق، لكن من وقفَ في وجه الظالم بشّار الأسد وقال كفى، يتمّ حكمه ظلماً 15 عاماً، مع الأعمال الشاقة! شكراً لعدالتكم».
ماذا بعد الحكم؟
«القرار رايح حكماً إلى التمييز»، يقول المحامي محمد صبلوح أحدُ وكلاء الدفاع عن الاسير، موضحاً لـ«الجمهورية»: «مع صدور حكمِ الإعدام على الاسير يُعتبَر تمييز الحكم مقبولاً حكماً، أمامنا مهلة 15 يوماً لتمييزه، وعلى محكمة التمييز مهلة، إذ ستُعاد محاكمة الاسير مجدّداً».
ويَلفت صبلوح إلى انّ هيئة الدفاع عن الاسير، قدّمت 3 شكاوى للأمم المتحدة في جنيف «عن الاعتقال التعسّفي، والتعذيب، وغياب ضمانات المحاكمة العادلة في محاكمة الاسير، وذلك عن طريق المفوّض السامي لحقوق الإنسان في بيروت، وقد وردني كتاب يؤكّد تلقّيَهم الشكاوى، وهي قيد الدرس».
ويضيف: «خلال دراسة محكمة التمييز للملف، حكماً ستصدِر الامم المتحدة قرارَها بإدانة للمحكمة العسكرية وسيكون لنا موقف آخر، سنعود بطلبات وأدلّة أكثر، عسى أن تكون محكمة التمييز جاهزة لمواجهة «حزب الله»».
في موازاة ذلك، أعرَب مصدر قضائي لـ«الجمهورية» عن ارتياحه لصدور الحكم، مشيراً «إلى أنّ الحكم بالإعدام كان ضمن حسابات الاسير انطلاقاً من قناعاته بما ارتكبَه، والدليل أنّه لم يترك ذريعةً إلّا واستخدمها في المماطلة لتأخير الجلسات وإبعاد الحكم عنه».
أمّا عن الأجواء التي سبقت اتّخاذ القرار، فلفتَ إلى «أنّ هيئة المحكمة أكملت المسار الذي بدأت فيه الجلسات مع العميد خليل إبراهيم، وأنّ عبدالله واصَل المنهج عينَه محاولاً الاستجواب وإعطاءَ الفرصة للمتّهمين لقولِ ما لديهم، وبعد التمادي بالمماطلة وضَع حدّاً لها خصوصاً لنغمة اعتكاف وكلاء الدفاع عن حضور الجلسات». وأضاف: «إتّهم الاسير بمادة 6 من قانون الإرهاب، والمادة 549 عقوبات، اللتين تنصّان على الإعدام.
وقد تمّ اعتماد معايير محدّدة في تحديد حجم الأحكام التي تراوحت بين الاكتفاء بمدة التوقيف إلى الأشغال الشاقة وصولاً إلى الإعدام، وفق حجم مشاركة المتّهم والدور الذي أدّاه في المعركة».
مرمى التمييز
في وقتٍ تنشدُّ الأنظار إلى محكمة التمييز العسكرية، وإلى الدور الذي ستؤديه بعد حكمِ الإعدام، لا يجب أن ننسى أنّ هيئة الدفاع عن الأسير كانت قد قدّمت طلبَ تعيينِ هيئةٍ بديلة لدى محكمة التمييز، إلّا أنّ هذه الأخيرة ردّت طلبَهم.