للمرة الأولى في لبنان، يتغير مسار قطاع المقالع والكسارات من مزراب للهدر والتشويه والسرقة لمصلحة متنفذي المناطق وأحزاب السلطة (مع تقصّد عدم تنظيم الملف)… إلى المسار القانوني للتحصيل لمصلحة خزينة الدولة. فبعد تسلّم وزارة البيئة الدفعة الأولى من مسح الجيش لمواقع المقالع والكسارات في مختلف الأراضي، والتي بلغ عددها 1235 موقعاً، وبعد التقديرات الأولية للمستحقات التي كان يفترض تحصيلها بما بين مليارين ونصف مليار وسبعة مليارات دولار أميركي، عكفت الوزارة بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ومختصين على دراسة كيفية تحصيل مستحقات قطاع المقالع للخزينة وكيفية تحديد المسار القانوني الأسلم والأسرع للتحصيل. وعقد وزير البيئة ناصر ياسين أكثر من اجتماع مع المعنيين، ولا سيما رئيسة هيئة القضايا هيلانة اسكندر وقضاة آخرين لمناقشة الصيغ والآليات المقترحة للتحصيل، يفترض أن تحسم في اجتماع يُعقد اليوم، في وقت اقترح وزير البيئة في مشروع قانون الموازنة أن يتم التحصيل بالدولار.
المشروع شبه النهائي المتداول للتحصيل قسّم المقالع إلى ثلاث فئات، المرخّصة من المرجع الصالح، والحاصلة على مهل إدارية، وغير المرخصة. بالنسبة إلى الفئة الأولى المرخّصة، يتوجب عليها رسم رخصة وتجديدها لدى وزارة المالية قدره مليونان ونصف مليون ليرة لبنانية، ومشار إليه في الملخص التنفيذي الصادر عن وزارة البيئة وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي في عام 2022، وهو رسم أُصدر عام 2004، ويستوفى بموجب أمر قبض صادر عن وزارة المالية. بالإضافة إلى رسم رخصة البلدية الذي يُستوفى أيضاً بموجب أمر قبض صادر عن البلدية وهو يوازي 15 ألف ليرة للمتر المربع الواحد، ويحتسب على حدة عن رسم الرخصة ورسم تجديد الرخصة. بالإضافة إلى بدلات الاستثمار حسب المرسوم المتعلق بتنظيم المقالع والكسارات، يلتزم بدفعها إلى صندوق البلدية المختصة أو إلى صندوق الخزينة خارج النطاق البلدي (إذا كان المقلع أو الكسارة خارج النطاق البلدي)، تحدّدها وتجبيها وزارة المالية بموجب أوامر قبض، وتخضع في أصول جبايتها إلى قانون أصول تحصيل الضرائب المباشرة والرسوم المماثلة لها، بالإضافة إلى ضريبة الدخل والضريبة على القيمة المضافة التي تستوفى من الشركات المستثمرة وذلك بموجب أوامر قبض صادرة عن وزارة المالية.
أما فئة المقالع الحائزة على مهلة إدارية أو غيرها، فإن مجلس شورى الدولة سبق أن أصدر بتاريخ 19/1/2022 قرارين قضائيين بإبطال قرارات إدارية بالترخيص لشركات الإسمنت بمواصلة أعمالها في المقالع… بالإضافة إلى قرارات قضائية أخرى اعتبرت المهل الإدارية منعدمة الوجود ويفترض أن تعامل كأنها غير مرخّصة بشكل عام. وهنا يأتي التصنيف الثالث لفئة المقالع العاملة من دون ترخيص، إذ تقترح الدراسة أن تلتزم هذه المقالع بدفع جميع المستحقات المفروضة على المقلع المرخص أصولاً، بالإضافة إلى غرامة ناجمة عن العمل بدون ترخيص. تبقى المستحقات العائدة من قضية التعويض عن «التدهور البيئي» الذي تسبب به هذا القطاع، الجديدة في مقاربتها، هذا التدهور الذي نجم عنه تلوث الهواء وتضرر المنظر وتدهور النظم الإيكولوجية، ولا سيما المياه الجوفية والسطحية، مع الأخذ في الاعتبار دراسة عام 2000 على ثلثي المواقع فقط والتي قدرت حجم التشوهات التي تسبب بها القطاع بـ1300 هكتار في أقل تقدير. حول هذا الموضوع، اقترحت الدراسة العودة إلى المادة الثامنة من المرسوم رقم 6569/2020 المتعلق بتحديد دقائق تطبيق المادة 61 من قانون موازنة عام 2019، بأن تقوم قوى الأمن الداخلي بتسطير محاضر بالمستثمرين المخالفين وتحيل نسخة عن هذه المحاضر إلى وزارة البيئة لتقييم الضرر البيئي وتحديد التعويض الذي يتوجب تسديده من جانب المستثمر في حال عدم قيامه بإصلاح هذا الضرر، وذلك بموجب أوامر تحصيل تصدر عن وزارة البيئة.
أما حول موضوع «التأهيل البيئي»، فقد نص عليه المرسوم رقم 8803/2002 الصادر بتاريخ 4/10/2002 المتعلق بتنظيم المقالع والكسارات، وقد ألزم كل مستثمر لمقلع أو كسارة إجراء أعمال تأهيل وترتيب للموقع حيث تم استثمار المقلع أو الكسارة تحت إشراف المجلس الوطني للمقالع، على أن تترتب كلفة هذه الأعمال على عاتق المستثمر. كما أن المادة 22 من المرسوم المذكور نصت على أنه في حال امتناع المستثمر عن تنفيذ جميع هذه الأعمال الملقاة على نفقته، ينوب مكانه المجلس الوطني للمقالع في تنفيذها وتؤخذ الكلفة من قيمة الضمانة المالية التي يحدد المجلس المذكور نوعيتها وشكلها وقيمتها والتي يقدمها مستثمر المقلع أو الكسارة عند تقديمه لطلب الترخيص لتغطية جميع التزاماته، وبخاصة كلفة التأهيل والترتيب (والتي بالغالب ما تكون زهيدة جداً بالنسبة إلى إعادة التأهيل ولا تكفي لذلك). وفي حال لم تكفِ هذه الضمانة لتغطية كلفة هذه الأعمال يُلزم المستثمر بالفرق. وبحسب رأي هيئة التشريع والاستشارات رقم 175/2023 المشار إليه أعلاه، تطبق على هذه المسألة المادة 8 من المرسوم رقم 6569/2020 التي تعطي الصلاحية لوزارة البيئة لإصدار أوامر التحصيل التي تتضمن المبلغ المتبقي من كلفة التأهيل، ومن ثمّ لوزارة البيئة أن ترسل أوامر التحصيل إلى المستثمر لكي تستوفي ما يترتب لها بذمة المستثمرين من ديون ناتجة من الأضرار البيئية. وفي حال تخلّف المستثمر عن دفع ما يترتب عليه من مستحقات وتعويضات لصالح جهات مختلفة، سنداً للمادتين 11 و12 من قانون أصول تحصيل الضرائب المباشرة والرسوم المماثلة لها، يُنذر بوجوب أداء ما يترتب عليه لصالح خزينة الدولة. وفي حال لم يسدد المستثمر ما عليه تبعاً لاستلامه الإنذار، يقوم المرجع المختص بالتنفيذ الإجباري على أمواله المنقولة وغير المنقولة لاستيفاء المبالغ المتوجبة.
تُقدّر المستحقات التي كان يُفترض تحصيلها من القطاع بما بين 2.5 و7 مليارات دولار
لتنفيذ كل ذلك، اقتُرح تعيين محام للدولة (أو مكتب محاماة، مع العلم أن للدولة 70 محامياً فقط) لمعاونة رئيس/ة هيئة القضايا في كل ما يتعلق بسير العمل كما ينظمه رئيس الهيئة، وعليهم أن يتقيدوا بتعليماته وفق شروط محددة. وتُحتسب الأتعاب على التحصيل وفق نسب معينة.
كما نوقشت بنود تتعلق بمصير هذه المستحقات المحصلة، وإمكانية استعانة محامي الدولة بجهات حقوقية أجنبية أو دولية، وإمكانية تحصيل المستحقات بالدولار، ولا سيما كلفة التأهيل وكلفة تقييم الأثر البيئي والتدهور البيئي. كما طُرحت مشكلة التهرب الضريبي وكيفية التصرف معها والجزاء عليها وعلى عدم التأهيل، بالإضافة إلى مشكلة «التبليغ» الشائكة في لبنان في كل القضايا، ولا سيما الكبرى منها.
فهل تتلقف القوى السياسية هذا المشروع الذي يضع حداً للتشويه البيئي ويؤمن مداخيل مهمة للخزينة، بدل سلسلة الضرائب الجائرة؟ أم تنجح القوى المستفيدة من القطاع، كما في كل مرة، بتخريب أي توجه للتنظيم وتحصيل المستحقات للخزينة الخاوية والمسروقة؟ وليس التصريح الاستباقي السلبي من النائب ميشال الضاهر حول مشروع التحصيل أخيراً سوى دليل على ذلك!