IMLebanon

«رباعية» رأس بعلبك: الشعب والجيش والمقاومة.. و«السيدة»

أطلقت بلدة رأس بعلبك الرابضة على سفح سلسلة جبال لبنان الشرقية معادلتها الخاصة: «فلنعتمد رباعية «الراس»: الشعب، الجيش، المقاومة والسيدة»، وفق أحد أبنائها. السيدة العذراء، سيدة رأس بعلبك التي تحرسها في الوجدان الديني والشعبي لـ «الراسية» كما يسمونهم جيرانهم. السيدة التي حمتهم خلال المذابح الطائفية في العام 1860، وصمدت كنيستها أمام زلزال 1956، وسهرت على سلامتهم خلال سنوات الحرب الأهلية، تحرسهم اليوم «مع الجيش وشعبها والمقاومة» من «الدواعش» الذين يحتلون نحو 120 كيلومتراً مربعاً من جردها، كما يقول المربي سمير شعبان.

هنا، في «الراس» يتحدثون عن «معمودية الدم». دم 14 شهيداً للجيش اللبناني في مواجهة التكفيريين في قرنتي «أم خالد» و«الحمرا» ودم 41 شهيداً من ابنائها في صفوف الجيش اللبناني على كامل تراب الوطن، ودم شهداء «حزب الله» خلال التصدي لـ «الدواعش» قبل نحو 25 يوماً في «معركة الفجر»، في جرود البلدتين الجارتين راس بعلبك والقاع.

عصبية «الراسية» لبلدتهم واضحة وإن سألت أحد أبناء البقاع الشمالي عن جيرانه أبناء «الراس»، يأتي الجواب سريعا «راسهم يابس». هذا «اليباس» لطالما عبر عن نفسه بمواقف إيجابية عززت علاقة أهل الراس ببيئتهم الطبيعية بعيداً عن نيران العصف الطائفي التي لطالما استعرت تاريخياً في المنطقة ولبنان. «نحن ننفعل بسرعة كما أبناء محيطنا، ولكننا مثلهم طيبو القلب سرعان ما نهدأ ونرضى»، يقول أستاذ المدرسة المتقاعد حكمت سمعان.

وما أشبه الحال في رأس بعلبك اليوم بمثيله قبل أربعين عاماً، عشية اندلاع الحرب الأهلية.

كانت الهرمل تشيع شهداءً من أبنائها الذين سقطوا في مجزرة بوسطة عين الرمانة، فيما التوتر الطائفي على أشده في طول لبنان وعرضه. في اللحظة التي عبرت فيها قافلة التشييع الطريق الدولية بين بعلبك وحمص متجهة نحو الهرمل، تداعى أبناء راس بعلبك الشيوعيون والقوميون، إلى اجتماع اعتبروه «مصيريا» لبلدتهم.

كان الرأي العام في البلدة منقسماً بين تيارين أساسيين: اليمين واليسار. يومها، أصدر نحو أربعين شاباً «راسياً» بياناً يحدد موقف بلدتهم مما يحصل: استنكروا «إجرام عصابات الأحزاب التي ارتكبت المجزرة»، وأعلنوا بلدتهم، «جزءاً لا يتجزأ عن محيطها الطبيعي»، لا بل ذهبوا أبعد من ذلك. لم تبخل رأس بعلبك بشبابها الذين قاتلوا في صفوف الحركة الوطنية، واستشهد منهم، على سبيل المثال لا الحصر، أنور نصرالله (شيوعي) ويوسف أنطون (قومي).

القرارات الحزبية.. محلية

اليوم، ما زال الانقسام السياسي في راس بعلبك قائمأ، لكنه ليس على صورة الانقسام القديم. فقد تغيّرت البنية السياسية التي انتجتها الحرب الأهلية. ينقسم جمهور البلدة بين فريقي 8 و14 آذار، كما هو الحال في معظم المناطق اللبنانية، مع شريحة لا بأس بها من المستقلين على ضفتي الاصطفاف الأساسي. لكن رأس بعلبك اليوم لم تصدر بياناً مكتوباً تحدد فيه موقفها من المواجهة مع التكفيريين، بل أرست معادلة جديدة وفق مسؤول الحزب الشيوعي في البلدة إيلي مراد. يرى مراد أنه «جرت العادة في الأحزاب أن تأتي القرارات من القيادة الى القاعدة. في الراس حصل العكس. اتخذت القواعد الحزبية قرارها وأبلغته الى قياداتها». يقول مراد «مصلحة رأس بعلبك فوق كل اعتبار، وهي جزء لا يتجزأ من محيطها».

هذا القرار ترجمه شباب رأس بعلبك على الأرض بتشكيل مجموعات متنوعة سياسياً، موحدة البندقية والوجهة: «الدفاع عن رأس بعلبك في وجه محتلي جرودها ومهددي أمن ناسها ووجودها»، كما يقول أحد رموز «سرايا المقاومة»..

ويقول مسؤول الكتائب في البلدة أسعد غضبان «نضع مصلحة رأس بعلبك فوق كل اعتبار ونأخذ قرارنا المحلي على هذا الأساس». بالنسبة إلى كتائب رأس بعلبك هناك «انفتاح وتعاون مع الجميع من دون استثناء دفاعاً عن بلدتنا، وحزب الله مكون أساسي يدفع الشهداء في وجه التكفيريين»، ويختم «قرارنا ينبع منا، فأهل الدار أدرى بالديار».

واللافت للانتباه أن مسؤول «تيار المستقبل» في البلدة أنور شعبان يغرد بعيداً عن سرب «صقور 14 آذار». يقول شعبان أن شباب راس بعلبك بمختلف انتماءاتهم موجودون تحت راية الجيش اللبناني، وإذا كان حزب الله يقاوم جحافل التكفيريين القادمين باتجاهنا، فله منّا ألف تحية».

بالنسبة إلى أسعد غضبان، فان شهداء «حزب الله» من ابناء المنطقة «تربينا معهم، وجلسنا على المقعد الدراسي نفسه، ولعبنا الكرة معاً وهم خيرة شبابنا، وكل شهيد منهم هو شهيد لبلدتنا». يترجم هذا الكلام نفسه عندما نتعرف من خلال شباب «الراس» على هوية وصور خمسة شهداء من الهرمل وحدها في المعركة الأخيرة مع مسلحي «داعش» في جرد رأس بعلبك.

في السياق نفسه، يصب كلام أمين سر «القوات اللبنانية» في «الراس» ميشال فرحا. يؤكد أن «لا قراراً حزبياً رسمياً على صعيد القيادة المركزية للقوات بحمل السلاح لكننا كأبناء بلدة معرضة للخطر نحن وراء الجيش اللبناني كما كل أولاد رأس بعلبك والمنطقة، فالخطر التكفيري لا يوفر احداً وهو لا يسأل لا عن البطاقة الحزبية ولا عن الهوية الدينية، بل يستهدفنا جميعا». يشدد فرحا على حسن العلاقة التي تربط أبناء القوات في «الراس» مع كل الأطياف السياسية، «هنا لا يمكن أن يكون ابن القوات اللبنانية على خصام مع ابن سرايا المقاومة. نحن يد واحد في مواجهة الخطر الذي تواجهه رأس بعلبك وكل بلدات المنطقة».

خطاب ايجابي متبادل

هذا الخطاب من ممثلي تيارات محسوبة على 14 اذار في رأس بعلبك يقع برداً وسلاماً على أبناء بلدتهم المنتمين إلى «سرايا المقاومة» والعونيين والشيوعيين والقوميين وبقايا البعثيين. هنا يصبح مشهد «حراس البلدة» وراء الجيش اللبناني وعلى أطرافها، الكتف على الكتف والظهر على الآخر، ليس فصلاً من مسرحية رحبانية. ويقول أحد ممثلي «تيار المقاومة» في رأس بعلبك رفعت نصرالله «عندما اتخذنا قرار مواجهة التكفيريين قبل عامين، لم يكن كل ابناء بلدتنا معنا ولكنهم احترموا قراءتنا لما يحدث ورؤيتنا وخيارنا ولم نشعر بأي ضيق أو تنافر».

«التيار الحر كان سباقاً أيضاً»، حسب منسقه في رأس بعلبك رزق رزق، مشيرا الى أن رأس بعلبك «صامدة بالموقف الجامع لأبنائها وراء الجيش اللبناني الذي يقدم الغالي والنفيس لحمايتها، وهي تحفظ للمقاومين تضحياتهم وهم يسطرون البطولات في جرودها».

ولمشاركة «التيار الحر» بحمل السلاح دفاعاً عن رأس بعلبك خصوصيته كون هذا التيار السياسي الفتي لم يحمل السلاح كما غيره من الأحزاب التي شاركت في الحرب الأهلية». يقول رزق «إن التيار العوني يرفض الأمن الذاتي، لكن في ظروف اللحظة الصعبة، لا مفر من حمل السلاح».

«ابنة البقاع ولبنان»

وفي ظل الأسئلة الكثيرة التي تطرح على أبناء البلدة حول مدى صحة استهدافها كبلدة مسيحية، يعيد ابن رأس بعلبك سمير شعبان وضع الأمور في نصابها الصحيح: «رأس بعلبك ترتبط مصيرياً وتاريخياً وعلى الصعد كافة بمحيطها البقاعي، وهي ـ وفق شعبان ـ القلب الذي يمد يداً إلى عرسال وأخرى إلى الهرمل لتكون صورة عن لبنان الذي نريد».

ومن المرجة أمام داره عند مدخل رأس بعلبك، يلحظ المربي حكمت سمعان «سريان شعور من الطمأنينة بين أهالي البلدة في مواجهة الخطر التكفيري». وعلى بعد أمتار من منزل سمعان، ثمة ورشة عمل لتركيز نصب حجري لمار الياس يرفع سيفه. الحجر الجميل للتمثال عرسالي والنحات من عرسال ايضاً، فيما تعج راس بعلبك بالقادمين من أبنائها لقضاء الصيف بغض النظر عن كل ما يجري في الجرود. تنهمك البلدة في التحضير لمناسبتين عزيزتين على أهلها هما عيد مار الياس في 19 تموز المقبل، وعيد السيدة، سيدتها، التي تشرف عليها من أعاليها في 15 آب من كل عام.

يحل عصر «الراس» فتعلو أصوات أجراس كنائسها. تعتذر السيدة «الراسية» التي قدمت أمس من كندا بلطف لحماستها للمشاركة بقداس المساء. تسألها إن كانت تستشعر خطراً على بلدتها التي تحرص كل عام على قضاء الصيف في ربوعها، فتشير إلى كنيسة السيدة وتقول «لا تنسوا أعاجيب السيدة وآخرها القاعدة الرباعية».

حكاية «الراس» مع نار التكفيريين

يتوقف مسؤول «سرايا المقاومة» في البلدة رفعت نصرالله عند أهمية ورمزية معركة «قرنة الحمرا» التي قادها الجيش اللبناني ضد التكفيريين في الجرود.

تمسك «قرنة الحمرا» (1462 مترا عن سطح البحر) بمعظم الطرق والتلال التي تربط رأس بعلبك بخراجها وجرودها، وفق نصرالله. منها تنبسط رأس بعلبك كـ «الصحن» تحت مرمى التكفيريين لو تسنى لهم التمركز فيها. من هنا يعتبر أهالي «الراس» دماء شهداء الجيش في «معركة القرنة» دينا في أعناقهم.

قبل هذه المعركة، وقعت اعتداءات كثيرة، يوثق رفعت نصرالله بعضها: خطف إبن البلدة جورج يوشع، الدخول إلى أحد المناشر في جردها وخطف ثلاثة عمال مسيحيين منها، قصفها بالصواريخ أكثر من مرة، الهجوم على قطعان المواشي ومصادرة الماعز والغنم، مهاجمة كسارة في تنية الراس وخطف ستة عمال وابن البلدة مخول مراد الذي دفعت الراس فدية 30 ألف دولار لتحريره، فضلا عن مصادرة معظم جرود البلدة.

ويضيف نصرالله أن الحدث الأهم يتمثل بمهاجمة الجيش اللبناني خلال «غزوة آب 2014». استهداف المسيحيين في سوريا والعراق ومصر صار أوضح من الواضح «ولدينا تجربتان مُرَّتان هما: خطف راهبات معلولا وخطف المطرانين». من هنا، يقول نصرالله إن جميع أبناء «الراس» متفقون بأن الدفاع عن أرضهم وبلدتهم «صار حتمياً وأكثر من ضروري».