Site icon IMLebanon

أين نحن من تقاليد المحترمين؟

 

على الطريقة الإنكليزية التي تفضل اللغة مصاغة بالإيحاء أكثر من التصريح، والناجمة عن تراكمٍ ثقافي مديد، كان إعلان أطباء الملكة اليزابيث الثانية ظهر الخميس أن وضعها “مثير للقلق” بمثابة إشارة مسبقة لوفاة متوقعة لا تحتاج الى لبيب.

 

ولوهلة سرت في وسائل التواصل الاجتماعي في لبنان أفكار تآمرية خلَّفها الاحتكاك الطويل بالممارسات السياسية الانقلابية المنحرفة من نوع ان “الملكة ماتت فعلاً لكنهم يؤجلون الخبر حتى يحسم اسم الوريث” ليتبين سريعاً للمشككين وهواة الأخبار المزيفة أن ليس لدى الانكليز مَن يشبه العمَّ ويملك أطماع الصهر العزيز وينتظر استحقاقاً دستورياً بغية التخريب ووضع العصي في الدواليب.

 

ماتت اليزابيث في قصرها الاسكتلندي بهدوء. صار تشارلز الثالث ملكاً بوقارٍ شديد. لا فجيعة لأنّ الموت قدر طبيعي، ولا خشية على المملكة لأنّ بريطانيا دولة مؤسسات وليست ديكتاتورية قائمة على عبادة الاشخاص، ولا خلل يستدعي تغيير ترتيب التوارث. في مثل هذه الديمقراطية المؤسسة قبل نحو 500 عام لا محل للاهتزازات حتى لو تعرّض حاكم لمفاجأة اغتيال، فكيف اذا كانت اليزابيث قد قاربت المئة عام واستنفدت ما استطاعت من قدرة على الحياة؟

 

لا مجال لمقارنة سلاسة انتقال مقاليد الحكم في ملكية دستورية راسخة، مع اضطرابه في دول تُجري انتخابات وتتوسل صناديق الاقتراع لترسخ ديكتاتورية، أو نظاماً تيوقراطياً يؤلّه الحاكم، أو زعيماً مطلقاً لجمهورية مافياوية سمَتها العنف والشعبوية. أمثلة التكتم عن وفاة قادة بانتظار البديل أو حسم صراع السلطة بين الأجنحة كثيرةٌ في التاريخَيْن القديم والحديث. وللراغب أن يراجع سجلّ الساعات الاستثنائية التالية لوفاة ستالين، أو المؤامرات قبل جنازة كلّ أمناء الحزب الشيوعي السوفياتي، أو ان يرجع بالذاكرة القصيرة الى تكهنات رافقت آخر أيام الخميني وحافظ الأسد.

 

لا يُطرح، مثلاً، السؤال عما سيحلُّ ببريطانيا لو اختفى تشارلز الثالث ملك البلاد ورأس الكنيسة الانغليكانية فجأة عن المسرح السياسي. لكنه سيكون مثيراً وقاطعاً للأنفاس لو حصل ذلك لبشار الأسد او فلاديمير بوتين أو الرفيق كيم. فمزاوجة استقرار الحكم الملكي بالديموقراطية وحكم المؤسسات هي وصفة بريطانية نادرة وفائقة النجاح، خصوصاً أنها احتكمت طوال عهد اليزابيث الى رضا أكثرية الشعب واطمئنانه الى توازن بين ثبات العرش وتداول السلطة الشعبي.

 

هو تمرينٌ مؤلم وغير عادل ان نقارن بين وقائع انتقال التاج من اليزابيث الثانية الى تشارلز الثالث وما يرافقه من مراسم تكريم واحترام للتقاليد يجدد الثقة بالنظام، وبين السيناريوات الكابوسية ليوم 31 تشرين، وبينها تلويح ميشال عون وجبران باسيل بخطوة انقلابية تجعل نهاية الولاية بداية أزمة إضافية.

 

مؤسفة خسارة ملكة أحبَّها شعبُها وقدَّم لها كلّ احترام على مدى 74 عاماً واكبت خلالها تحدياته وأمانيه، بقدر ما يريح أن تزخر ردود فعل اللبنانيين بالرغبة في “كسر جرّة” وراء “العهد القوي”.