Site icon IMLebanon

تساؤلات حول استقلالية المصارف المركزية حول العالم

من منظور اقتصادي بحت لعبت المصارف المركزية دوراً ريادياً في طباعة النقود ومراقبة السيولة وأسعار الفائدة في كثير من دول العالم. اضف الى ذلك الدور الذي تلعبه في تنظيم القطاع المصرفي.

لسنين خلت لعبت المصارف المركزية دورها بتكتّم في محاولة لتجنّب الاضواء مكتفية بتوجيه القوى الاقتصادية الاساسية مثل اسعار الفوائد وعرض النقود بعيدا عن التجاوزات.

ويبدو ان الامر يختلف الان سيما وان المصارف المركزية باتت تحتل الصفحات الاولى في الصحف اليومية وتعتبر اليوم جانيت يلين رئيس بنك الاحتياطي الفدرالي وماريو دراغي رئيس البنك المركزي الاوروبي من اقوى الاشخاص في العالم، والدليل على ذلك انه عند قيام رئيس الاحتياطي الفدرالي بالتلميح الى امكانية زيادة طفيفة في اسعار الفوائد انهارت الاسواق في جميع انحاء العالم.

والكلام هنا يؤثر مباشرة على الانتعاش الهش ويؤدّي الى ركود عالمي مع عواقب سياسية، وأزمة منطقة اليورو مؤخرا اكثر الامثلة الملفتة سيما عندما كان يجتمع السياسيون في بروكسل لحل أزمة اليونان كانت الانظار في الواقع تتوجه نحو البنك المركزي الاوروبي ورئيسه دراغي وماذا سوف يقرر المركزي الاوروبي.

السؤال الذي يطرح نفسه الآن كيف اصبحت المصارف المركزية قوية جدا وهل ما زالت مستقلة او انها اصبحت اداة سياسية ؟

هناك شيء مؤكد هو ان دور المصارف المركزية بعد الأزمة المالية العالمية قد تغير بشكل جذري، ومن المؤكد أيضا ان الحكومات في الدول الصناعية فقدت الكثير من سلطتها، ومواقف الحكومات الأميركية والاوروبية عقب الأزمة المالية العالمية خير دليل على ذلك.

رغم وجود علامات واضحة على ان هذه الأزمة المالية مختلفة عن سابقاتها قررت السلطات الاميركية ان تتمسك بخطتها القديمة وفشلت الى حد بعيد في تنفيذها، وجاءت هذه الخطة التحفيزية وضخت اكثر من ٧٨٩ مليار دولار وشملت اكثر من ٣٠٠ نوع مختلف من المستفيدين، علما ان حوالي ٩،٢ بالمائة من هذه المبالغ رصدت لأعمال دون اي تأثير على النشاط الاقتصادي، و٧٨.٥ بالمائة التزام على المدى القصير للحفاظ على الوظائف ودعم القدرة الشرائية والبناء وصيانة الطرقات. هذه الامور لم يكن لها اي قدرة على التأثير على الانتعاش لكن كان لها تأثير مباشر على الدين الفدرالي الاميركي.

وانفجرت الديون من مستوى ٨ تريليون دولار في عام ٢٠٠٧ الى اكثر من ١٥ تريليون دولار في عام ٢٠١١ وهي السنة التي خفضت فيها وكالات التصنيف سيما ستاندارد اند بورز تصنيف الديون الاميركية الى +AA . اما اوروبا فلم تتأثر مباشرة بالأزمة رغم ان مصارفها شاركت في هذه السوق، انما تعاطيها كان اقل شأنا من المصارف الاميركية.

وعلى ما يبدو ان نقاط الضعف ظهرت على المستوى الاوروبي في نواحٍ اخرى وفي مجالات كانت محسوبة لمن يراقب نشوء اليورو وارتفاع تكلفة العمالة لنسب كبيرة سيما في اليونان (٥٠ بالمائة) وايطاليا (٢٠ بالمائة) وانخفضت في المانيا (١٩ بالمائة) وفشل حرية انتقال القوة العاملة بسبب التفاوت في اللغة والتقاليد والتعليم واتساع الهوة بين الدول.

جاءت صعوبات البنوك الاوروبية وعدم قدرتها على القيام بدورها واتساع هوامش الفائدة للسندات السيادية وديون سيئة وضعف هيكلية في النظام

المصرفي الاوروبي وتباين في الآراء حول الوسائل المفروض استخدامها للتعامل مع الاسواق المالية لتزيد من مشاكل اوروبا مما دفعهم في ايار ٢٠١٠ الى انشاء مرفق الاستقرار المالي EFSF European Financial Stability Facility والذي كان دوره تقديم المساعدة عن طريق القروض واعادة رسملة المصارف وشراء الديون السيادية، لكن المبالغ التي رُصدت كانت غير كافية لحل المشاكل المتراكمة.

هكذا أصبح من الواضح ان الحكومات لم يمكنها ان تؤدي دورها في اكبر اقتصادين في العالم، ولم يبق سوى المصارف المركزية والنظام المصرفي كخط دفاعي اخير في مواجهة أزمة مالية قد تتحول بسرعة الى كساد، وادركوا ايضا ان المطلوب منهم حاليا دور غير متوافق مع دورهم التقليدي في تحفيز الاقتصاد وانعاشه وان يكونوا على مستوى التحدي.

وللعلم، واجهت اهم المصارف المركزية العالمية هذه الوضعية بجرأة وبتدابير استثنائية تجاوزت الى حد بعيد ما هو مرسوم لها، ونراها اليوم تتعاطى مع الامور وكأنها المسؤولة النهائية عن وضعية الدول الاقتصادية وبغض النظر عمّا يتأتى عن ذلك من انتقادات.

اما زيادة مسؤولياتها فقد تؤثر وبوضوح على استقلالية المصارف وقد ظهر ذلك جليا لا سيما مع الانتقادات التي وجهها دونالد ترامب الى يلين كذلك Schauble الى المركزي الاوروبي وعن ان وراء الخطوات التي يقومون بها اجندة عمل سياسية بحتة .

هذا الامر ينطبق في العديد من الدول لا سيما تلك التي لديها اجندة عمل سياسية يلزمها تمويل محدود، وقد يكون الامر ينطبق على لبنان، الامر الذي ساعد على الأرجح في زيادة مديونية الدولة على النحو الذي نعيشه الآن. ولمن لا يعرف، في تقرير أخير لـ»واشنطن بوست»، جاء ان لبنان هو الثالث عالميا من حيث الدين مقارنة بالناتج المحلي.

اذا كانت البنوك المركزية، وحسبما هو متعارف عليه، لديها مسؤولية اشرافية، فإن الأزمة المالية العالمية الاخيرة علمتنا ان هناك العديد من المسؤوليات اصبحت مناطة بالمصارف سيما الاستقرار المالي العالمي والاشراف على المؤسسات المالية والمصارف الاخرى، وربما اكثر مما يعيد الى الأذهان امران باتا مُلحين، وهما على وجه التحديد الاستقلالية والسلطة.