انتفاضة الأجيال الشابة في تظاهرة السبت التاريخية، تُعتبر المسمار الأول في نعش الانقسام العامودي بين جبهتي 8 و14 آذار، الذي عطّل البلاد والعباد، وأوصل الجمهورية والنظام والصيغة إلى حافة الانهيار القاتل.
الألوف التي زحفت إلى ساحة الشهداء في حركة وطنية وعفوية، وبعيداً عن أية اصطفافات حزبية أو طائفية أو حتى مناطقية، وضعت الأحرف الأولى في نهاية مرحلة المتاجرة بالعصبيات المذهبية والطائفية والحزبية، التي حفلت بكل ألوان الفساد والانتهازية الجشعة، على حساب الوطن المعذَّب، والمواطن البائس.
تجاوز الحراك الوطني الغاضب أزمة النفايات وفضائحها، التي كانت بمثابة الشرارة التي فجّرت ثورة الناس المحبطين، إلى المطالبة بكشف بؤر الفساد المعشعشة في جسم الطبقة السياسية، ووضع حدّ للانتهاكات الصارخة ضد الوطن، وعلى حساب لقمة الفقراء وذوي الدخل المحدود.
طبعاً، لا أحد يتوقّع أن يستسلم حيتان المال والفساد في الطبقة السياسية المفلسة بسهولة، بل ثمّة تحركات من قِبَل الأطراف السياسية عينها، للردّ، والقيام بهجوم معاكس، يُجهض الحركة الوطنية الوليدة، ويطوي، مرّة أخرى، صفحة الأحلام التي تراود الشباب بالتطوير والتحديث، واعتماد الحوكمة والشفافية، للقضاء على «ثقافة» الصفقات والسمسرات، والتي تحوّلت إلى نهب وسرقة موصوفة للدولة المُنهكة، بالديون الثقيلة من جهة، وبالتعثّر الاقتصادي والإنمائي، الذي ينعكس سلباً على مختلف القطاعات الإنتاجية في البلد من جهة ثانية!
فهل ينجح التواطؤ السياسي، العابر للخلافات التقليدية، في وأد الانتفاضة الوطنية، ومنعها من تحقيق آمال الأجيال الجديدة؟
لا داعي للتذكير بأن الحراك الوطني دونه تحديات، تُعيق وصوله إلى أهدافه الإصلاحية المنشودة، أو على الأقل تؤخِّر تقدّمه، في حال لم تتضافر مصالح الطبقة السياسية، للعمل معاً على إفراغ الحركة الإصلاحية من محتواها، والاكتفاء بمعالجة بعض القشور الخارجية، تحت شعار مكافحة الفساد!
الواقع أن الخطر لا يكمن في ردّة فعل الطبقة السياسية الفاسدة والعاجزة فحسب، بقدر ما هو موجود أيضاً في النهج والتوجهات التي ستُعتمد في الخطوات المقبلة، ومدى واقعيتها أولاً، ثم مدى فعاليتها في الحفاظ على الحراك متحفزاً ومتحمساً، حتى تحقيق أهدافه الإصلاحية المنشودة.
ولعلّه من المفيد القول ان الشعارات التي أُطلقت في الأسبوع الأول للتظاهر، لم تعد واقعية، بل كانت، وإلى حدّ كبير عشوائية، وتنطوي على قدر فادح من الرومانسية الثورية، التي تأسرها الشعارات والمزايدات، التي إن دلّت على شيء، فعلى قلّة خبرة ودراية المشرفين على هذا الحراك.
من إسقاط الحكومة، إلى إسقاط النظام، ومن إدانة الطبقة السياسية بكاملها إلى عدم الإعتراف بشرعية المجلس النيابي المُمدّد لنفسه، ومن التركيز على إجراء إنتخابات نيابية جديدة، قبل التوافق على قانون انتخابات جديد، إلى إهمال الشغور الرئاسي، وعدم الإتيان على ذكر الانتخابات الرئاسية، كانت عملياً شعارات بعيدة عن الأمر الواقع، ويستحيل تنفيذ معظمها، لأن تحقيقها يعني سقوط الجمهورية، والقيام بقفزة خطرة في المجهول، في ظل احتدام الصراع الداخلي حالياً، وغياب المساعي الخارجية لتقريب وجهات النظر بين أمراء الطوائف، على نحو ما كان يحصل سابقاً، سواء في الطائف أم في الدوحة!
في حين أن شعارات السبت الماضي، كانت أكثر واقعية، واستطاعت تصحيح الانطباعات الأولية، عن حقيقة الحراك المفاجئ، وأهدافه المُعلنة والمخفية منها، كما أشاعت مناخاً من الاطمئنان، بعد حصر الكلام ببنود مطلبية فقط.
لم يعد إسقاط النظام مطروحاً، وأصبح بقاء الحكومة مطلباً، ولو غير معلن، وعادت الشرعية إلى المجلس النيابي ولو بشكل غير مباشر، وتصدرت مسألة الشغور الرئاسي البيان المعلن في نهاية التظاهرة، حيث كانت المطالبة بانتخاب رئيس للجمهورية في مقدمة بنود البيان، الى جانب حصر أزمة النفايات بالمطالبة باستقالة وزير البيئة محمد المشنوق، والاكتفاء بمحاسبة وزير الداخلية لمطلقي النار من القوى الأمنية على المتظاهرين.
* * *
مسارعة المنظمين بأن الحراك لن يتوقف عند هذه المطالب البديهية، بل سيستمر، وسيشمل مناطق أخرى إلى جانب بيروت، للمطالبة بمحاسبة الفاسدين، وتعميم ثقافة المساءلة على الصعيدين الشعبي والسياسي، يطرح عدّة تساؤلات مشروعة، من موقع الحرص على استمرار الحراك الواعي، وإنجاحه لبلوغ اهدافه في الإصلاح والتحديث:
{ هل يمكن فتح ملفات الفساد المستشري في مختلف مرافق الدولة ووزاراتها وإداراتها العامة؟
{ من هي الجهة القادرة على التحقيق في أي قضية فساد، بعيداً عن المؤثرات السياسية والطائفية والحزبية المعهودة؟
{ هل ثمة إمكانية لتكليف هيئة قضائية – إدارية مستحدثة، مثلاً، القيام بمهام تحديد الخيط الأبيض من الخيط الأسود في قضايا الفساد؟
{ ماذا لو تعثرت عملية انتخاب رئيس جديد لأسباب خارجية، وامتداداتها الداخلية، هل يستمر هذا الحراك لوضع الحروف فوق نقاط الاستحقاق الرئاسي، بشفافية ووضوح؟
* * *
تساؤلات… هي في الواقع تحديات تواجه انتفاضة الشباب التاريخية، وتضعها على محك الآمال الكبار التي تعلقها الأكثرية الساحقة من اللبنانيين، على استمرارها، وعلى نجاحها في تحقيق الأهداف الوطنية الكبرى!