IMLebanon

أسئلة من خارج السجال عن غاز لبنان

ثابَر بعض محافل الطاقة خلال الفترة الماضية، على وصفِ الجدل اللبناني السياسي وحتى الإعلامي في شأن غازه، بأنه يشتمل على كثير من «التسطيح»، فهو من جهة غير علمي في غالبيته، ويتمّ إخضاعه لسجال سياسي أكثر ممّا هو «منفعي»، ومن جهة أخرى لا يراعي معايير بديهية تتبعها أيّ دولة عندما تواجه مهمّة إدارةِ قضية اكتشاف غازها.

لكنْ خلال الأيام الماضية طرَأ تقدّم مبدئي لجهة حَسم خلاف كان نشبَ على المستوى السياسي اللبناني حيال قضية أيّ بلوكات ستشملها المناقصة أوّلاً، وذلك وفق قانون النفط اللبناني وقرارات الهيئة الناظمة. والمعروف أنّ وزارة الطاقة كانت طرَحت مناقصة بعد تقسيم المياه اللبنانية الى عشرة بلوكات، وتمّ اعتماد إجراء المناقصة على كلّ بلوك على حدة.

وبرَز حينها طرحان كما هو معروف، حول أولوية المناقصات، أوّلهما للوزير جبران باسيل الذي أصرَّ على طرح البلوكات ١و٤ و٥،٦، و٨: واحد في الشمال على الحدود مع سوريا و٨ على الحدود مع إسرائيل، و٤،٥و٦ تقع على طول الشاطئ اللبناني من الشمال الى الجنوب.

حجّة باسيل – وهي صحيحة من منظور معيّن- تقول إنّ الطرح الجزئي للبلوكات يؤمّن تأكيد نتائج المسح الجيولوجي لوجود كميات من الغاز في المياه اللبنانية، وبالتالي يرفع سعر البلوكات الخمسة الباقية عند تلزيمها.

أمّا طرح الرئيس نبيه برّي، وهو صحيح من اعتبارات معينة، فمفاده تلزيم البلوكات العشرة دفعة واحدة، ممّا يحمي لبنان من إمكان عدم مشاركة شركات أخرى فيما لو أظهرت نتائج الحفر في التلزيمات الأولى للبلوكات الخمسة حسب اقتراح باسيل، انخفاضاً لتوقّعات الشركات حول الغاز المكتشف.

الآن، وبعد تأخير دامَ ثلاث سنوات، تفاهمَ أصحاب وجهتَي النظر، ما قاد إلى حسم التباين، وذلك من خلال التوافق على أن تتضمَّن الدفعة الأولى من البلوكات البحرية التي ستُعرض ضمن مناقصات التنقيب، ثلاثة بلوكات قبالة الشواطئ الجنوبية، مباشرة عند الحدود البحرية مع فلسطين المحتلة، وبلوكاً واحداً على الأقل في الشمال، قبالة المنطقة الاقتصادية القبرصية.

غير أنّ هناك جهات مختصّة تلفت النظر الى هذه القضية من منظار آخر، وتقول إنه لو تمّ الافتراض جدلياً أنّ الشركات بدأت الحفر ووصلت الى لحظة استخراج الغاز، وهو أمر لن يحصل قبل سنة 2020 نظراً إلى الوقت الطبيعي الذي يستلزمه هذا العمل؛ فإنّ السؤال الذي يجب طرحه منذ الآن هو: ماذا سيفعل لبنان بغازه؟ وتضيف: «هناك خطأ شائع في لبنان، عمره من عمر فتح ملف اكتشاف الغاز فيه، وفحواه أنّ هذا السؤال ليس أوانه الآن!».

ولكنْ في مقابل هذه الإجابة، هناك تجربتان ماثلتان قريبتان من لبنان، توضحان طريقة تعاطي الدوَل مع مرحلة البحث عن مخزونها من الغاز، وهما: مصر وإسرائيل.

في إسرائيل، ووضعُها مشابه للبنان لجهة استقبال ضيفها النفطي الجديد، تصاحبَت عملية البحث عن سبل استكشاف الغاز وفي الوقت ذاته مع إدارة نقاش داخلي «وطني» تركّزَ على تحديد الطريقة الأمثل لاستخدامات الغاز المكتشَف.

ونتيجة هذا النقاش حدَّد الإسرائيليون أنّ نسبة 60 في المئة من الغاز المكتشف يجب أن تتوجّه إلى الاستهلاك المحلي؛ ولاحقاً خفضوا هذه النسبة إلى 40 في المئة. فيما حدّدوا بداية نسبة ٤٠ في المئة للتصدير ورفعوها لاحقاً الى 60 في المئة. وكلا الأمرين يتطلبان تنفيذ مشاريع إنشائية كبيرة وبنية تحتية للإفادة من الغاز المكتشف.

في الشقّ المحلي الإسرائيلي، هناك حاجة لإنشاء محطات طافية لاستقبال الغاز المستخرج من أعالي البحار وتحضيره للتوزيع المحلي. وتستلزم هذه المنشآت سنوات عدة لبنائها، وكلفتُها عالية توازي مليار دولار للمنشأة الواحدة.

أمّا لجهة التصدير فهناك خياران تقنيان ممكنان؛ الأوّل تصدير الغاز الطبيعي غير المسيّل عبر أنابيب مباشرة الى أوروبا، والثاني تصديره الى منشآت تسييل للغاز كمقدمة لشَحنه عبر البواخر إلى الاسواق العالمية.

وارتأى الإسرائيليون اعتماد الخيارَين معاً وفي آنٍ واحد؛ فمِن جهة هم احتفظوا بخيار تصدير غازهم الى اوروبا عبر أنابيب، ومن جهة ثانية توصّلوا إلى اتفاقية شراكة مع قبرص من أجل توسعة منشأة «فاسيلكو» القبرصية لتسييل الغاز قرب ليماسول، وذلك بالشراكة مع «توتال» الفرنسية و«ايني» الايطالية و«نوبل انرجي» الأميركية و«دليت» الإسرائيلية و«نجيا» الكورية في مشروع عملاق كلفته 6 مليارات دولار.

وقد وُقّع في حينها عقدٌ بصدد إنشائه، على ان تكون المنشأة جاهزة للتصدير سنة 2018.

أمّا النموذج المصري فيقوم على أن تستثمر مصر غازَها المكتشف في ثمانينات وتسعينيات القرن الماضي، في منشأة استقبال وتوزيع في العريش، حيث يتفرّع منها أنبوبان؛ الاوّل يذهب الى اسرائيل، والثاني الى العقبة الاردنية حيث يتصل بأنبوب الغاز العربي الذي يصل الى حمص.

ومن الواضح أنّ الخيار المصري قضى بتصدير كلّ إنتاجها من الغاز الى الخارج بدل الإفادة منه محلّياً. وقاد هذا الخيار مصر إلى أن تصبح مصدّرة ومستوردة للغاز في الوقت نفسه. وعدَلت مصر عن هذا الخيار أخيراً، وبادرَت إلى إنشاء محطات طافية لاستيراد الغاز (المقصود استيراد غازها) بكلفة مئات الملايين من الدولارات.

وبمقاربة مع الخيارين المصري والإسرائيلي، لا يبدو حتى الآن أنّ هناك خيارات لبنانية للتعامل مع ملف الغاز المكتشَف على نحو شامل ومخطط، بل ما يحصل هو سجال على صلة بتلزيمه، وكأنّ هذه العملية هي هدف الأهداف، علماً أنّها ليست إلّا وسيلة أوّلية يجب أن تواكبها عمليات أخرى أبلغُ أهمّية. وبمعنى آخر، لم يشهد لبنان حتى اللحظة أيَّ حوار وطني حول طريقة استخدامات غازه في لحظة استخراجه وبأيّ وسائل. وبدلاً من ذلك يتمّ إسباغ صفة الاستعجال على هذا النوع من الأسئلة، علماً أنّ عدم طرحِها يُعبّر عن قصور سياسي وعلمي في التعاطي مع ملف الغاز.

وأبرز هذه الأسئلة: ما هي خطة لبنان لاقتصاده في مرحلة الغاز، وتحديداً ما هي نسَب توزيعه داخل كعكة الاقتصاد اللبناني، ونسَبُ استخدامه في الإنتاج المحلي في مقابل نسبِ تصديره وإلى أيّ أسواق سيصدَّر وما هي الطريقة؟

الواقع أنّ الأجوبة المبكرة عن هذه الأسئلة تُحدّد سياسات التفكير بشكل التنقيب والاستخراج لتتلاءَم مع سياسات خطط التسويق والإنتاج؛ وإلى الأسئلة الآنفة هناك أسئلة سياسية ستَبرز بإلحاح مع بدء لبنان أولى خطواته التنفيذية في البحث عن الغاز:

– السؤال الأوّل: إلى أين وصَل المسعى الاميركي لحلّ قضية ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل. الإجابة عن هذا السؤال لا تزال غامضة، علماً أنّ مساعد وزير الخارجية الاميركية لشؤون الطاقة والنفط والغاز آموس هوكشتاين وصَل بالتتالي الى بيروت من أجل هذه القضية غير مرّة، وكان بذلك يستكمل المهمة عينها التي سبَقه فيها فريديريك هوف والتي استقال منها لتقدُّمه في العمر.

الاقتراح الأخير لهوف المتعلق بترسيم الخط الأزرق البحري الفاصل بين لبنان وإسرائيل والممتد داخل المنطقتين الاقتصادتين الخالصتين، تحدّثَ عن «إنشاء ممر أزرق يتضمّن المنطقة المختلف عليها بين لبنان وإسرائيل، بحيث يمتنع الجانبان عن التنقيب فيها الى حين التوصل الى حلول بشأن تقاسُم ملكيتها. وفي انتظار ذلك، ينقّب الجانبان في الحقول الواقعة حولها ضمن مناطقهما البحرية الخالصة».

لكن إسرائيل رفضَت اقتراح هوف الوسيط بين الخط الأزرق المتوافق مع القانون الدولي والذي يطالب به لبنان، وبين الخط الاسرائيلي الذي تحاول إسرائيل إضفاءَ الشرعية عليه من خلال إبلاغها أخيراً الأمم المتّحدة به. وطوال الفترة الماضية عمدَت إسرائيل عملياً إلى رسم هذا الخط الحدودي البحري الذي يمتاز بأنّه منحدر نحو الشمال وليس أفقياً، ما يمكّنها من قضمِ مساحات بحرية من المنطقة اللبنانية الخالصة تتّسع كلّما اتّجَه الخط أكثر نحو الغرب.

اللافت أنّه بعد اقتراح هوف المرفوض إسرائيلياً، لم يتمّ الإفصاح عن الاقتراحات التي حملها خلفه هوكشتاين، او عمّا إذا كان قدّمَ جديداً، وما هي طبيعته؟

– السؤال الثاني يتعلق بحقيقة قصّة رسالة لبنان الى الأمم المتّحدة يوم 10 – 7 – 2010 التي تزعمها إسرائيل. وسياق هذه القضية التي تحتاج أيضاً لإيضاح من لبنان في هذه المرحلة، يفيد بأنّ التعدّي الإسرائيلي على جزء مهم من منطقته الاقتصادية الخالصة قرب حدوده مع فلسطين، أنتجَ ايضاً مشكلة تُطاول ترسيم حدوده البحرية مع قبرص، نظراً لأنّ الاتفاق الحدودي الاسرائيلي – القبرصي حصل على أساس البيانات الحدودية البحرية الإسرائيلية، ما يَجعل المثلّث الحدودي البحري اللبناني – القبرصي – الإسرائيلي يقع بحسب الإسرائيليين والقبارصة نحو ٣٥ كلم الى الشمال ممّا هو قائم حسب الترسيم اللبناني. ويخسَر لبنان بذلك مساحة تزيد عن 850 كلم مربّعاً على حدوده مع فلسطين وقبرص.

وقد جرى هذا الترسيم الإسرائيلي القبرصي الثنائي حينها من دون استشارة لبنان أو مشاركته فيه. لكنّ إسرائيل اعتبرت ذلك قانونياً، متذرّعةً بحسب ما درَجت على ترداده منذ سنوات، بمعلومات غربية بأنّ « لبنان سبق وتنازلَ رسمياً عن حقوقه في هذه المنطقة، لذا لم تعُد محلَّ نزاع عليها بحسب تل أبيب».

وحسب رواية هذه المصادر، تملك الأمم المتحدة رسالةً رسمية من لبنان مؤرَّخة بتاريخ 10-7-2010 تتضمّن تنازلاً لبنانياً عن هذه المساحة البالغة 850 كلم مربّعاً، وذلك تحت تعليل أنّ بيروت لا تريد إنشاءَ نزاع مع إسرائيل حول هذا الموضوع.

وتضيف المصادر أنّ اسرائيل استغلّت هذه الرسالة ورسّمت حدودَها البحرية مع لبنان من طرف واحد ومع قبرص بالتشارك، انطلاقاً من إبرازها لهذه الرسالة التي استعملتها كمستند قانوني لدى إبلاغ الامم المتّحدة اعتمادَها الخط الحالي لحدودها البحرية مع لبنان.

وتَستغرب هذه المصادر عدمَ تقديم لبنان أيّ اعتراض ينفي المزاعمَ الاسرائيلية حول الرسالة. وهذا السؤال لا يزال في رسم الحكومة اللبنانية، ويصبح اليوم أمرُ نفيِه أو إيضاحه ملِحّاً أكثر!

– السؤال الثالث يتعلق بالموقف التركي الذي تتعارض مصالحُه الموضوعية مع مصالح لبنان في ملفّ الغاز، تحديداً مع قبرص. وفي مقابل انفتاح قبرص على تصحيح خطأ ترسيمها حدودَها البحرية الثلاثية مع إسرائيل ولبنان بغياب الأخير، تربط أنقرة أيَّ تقدّم في تصحيح هذا الملف بحلّ المسألة القبرصية لجهة تحديد حصّة قبرص التركية من الترسيم الحدودي اللبناني – القبرصي.

ثمَّة مشاكل أخرى كبرى يُتوقع أن تُثار بزخم بمجرّد بدء لبنان تنفيذَ قرار الانطلاق بخطوته العملية الأولى في مجال البحث عن غازه. وليس المطلوب التراجع عن هذه الخطوة خوفاً من تبعاتها، بل وضعها في سياق رؤية وطنية شاملة لمستقبل لبنان فوق خريطة الغاز في المنطقة، والأهمّ موقعه داخل تنمية الاقتصاد اللبناني وضمان آليات شفافية تعاطي القطاعين العام والخاص في استثماراته.