يبدو أن العماد ميشال عون يصرّ على أخذ المسيحيين خاصة، واللبنانيين عامة، إلى مغامرة ثالثة، لا تقل هولاً عن مغامرتيه السابقتين: حرب التحرير وحرب الإلغاء، واللتين انتهتا بكارثتين على البلد، وعلى المسيحيين بشكل خاص!
حاول كثير من اللبنانيين أن يجدوا ما يبرّر هذا «التصعيد الانفجاري» في خطاب «الجنرال» ومَن حوله، فلم تظهر سوى حفنة من المصالح الفئوية والشخصية، البعيدة كل البعد عن شعارات شد العصبية، مثل الدفاع عن حقوق المسيحيين، و«محاولات استبعادنا عن المشاركة في القرار»، و«رفض إملاء الآخرين للأمر الواقع علينا»، و«استعدادنا لتحصيل حقوقنا بالقوة»، و«استعدوا للنزول إلى الشارع لإحداث الانفجار».. إلى آخر العبارات الاستفزازية، التي أثارت قلقاً واسعاً لدى المسيحيين أولاً، وأعادت الأمور الى ما كانت عليه أجواء الحرب العبثية في الثمانينات، بالنسبة للأكثرية الساحقة من اللبنانيين.
ورغم اختلاط حابل التوتير بنابل الديماغوجي، إلا أن الواجب الوطني يفرض علينا الدخول بمناقشة هادئة وهادفة، مع هذا الخطاب المنفعل، الذي لو تُرك على غاربه، وتفلتت ردود الفعل السلبية عليه من ضوابطها، لوجد الناس أنفسهم في الشارع، يحتمون بمتاريس متقابلة، تفصل بينها خطوط النار والبارود!
وإذا استعرضنا أبرز نقاط الخطاب التوتيري والتحريضي للعماد عون والوزير باسيل، يتبين لنا ما يلي:
أولاً: في التوافق: يدّعي الوزير باسيل أن عدم تقيّد رئيس الحكومة بملاحظاته واعتراضاته على جدول أعمال مجلس الوزراء، يعتبر خروجاً على التوافق في مجلس الوزراء، وتجاوزاً لصلاحيات رئيس الجمهورية… كذا!
إذا كانت موافقة أكثرية الوزراء على جدول الأعمال تعتبر خروجاً على التوافق، لأن وزيري التيار البرتقالي يتمسكان ببند التعيينات الأمنية، فماذا نسمّي إصرار عون ووزيريه على فرض أحد بنود جدول الأعمال على كل الوزراء الآخرين؟
وإذا كان عدم الأخذ بالشروط العونية المعطلة لإنتاجية مجلس الوزراء بمثابة خروج على صلاحيات رئيس الجمهورية التي أوكلها الدستور إلى مجلس الوزراء مجتمعاً، فماذا نسمي المعاندة والتفرّد في اتخاذ مواقف، لا يمكن أن تأخذ طريقها إلى التنفيذ العملي من دون موافقة أكثرية الوزراء عليها؟
في التوافق أيضاً وأيضاً: طرح وزير الداخلية اقتراح تعيين العميد عماد عثمان مديراً عاماً لقوى الأمن الداخلي، فلم يحصل الاقتراح على التوافق اللازم، فكان أن سحب الوزير المشنوق اقتراحه، ومدّد للواء بصبوص في مهامه الحالية، تجنباً للوقوع في الفراغ، أو حصول أي خلل في أداء المؤسسة الأمنية الكبيرة.
بالمقابل، طرح الوزير باسيل اقتراحاً بتعيين العميد شامل روكز قائداً للجيش، فاعترض وزير الدفاع، ومعه عدد كبير من الوزراء، الذين أيدوا اعتراض الوزير المختص، لم يرفض الوزير العوني الانصياع لقرار الأكثرية الوزارية وحسب، بل تجاهل عدم حصول التوافق على تعيين القائد المغوار، وأعلن «حرباً شعواء» على الحكومة ورئيسها، وعلى مبادئ التوافق، وآلية عمل مجلس آلوزراء في ظل الشغور الرئاسي، وصل إلى حدّ تهديد عون بالانفجار، وإعلان صهره الوزير الاستعداد لاستخدام القوة!
ثانياً: في حقوق المسيحيين: لا ندري مَن الذي يُفرّط بحقوق المسيحيين. الأطراف السياسية والنواب الذين يحضرون جلسات انتخاب الرئيس النيابية، أم أولئك الذين يصرّون على مقاطعة الجلسات، وتطيير النصاب على مدى 25 جلسة نيابية، لتعطيل انتخاب رئيس الجمهورية، صاحب المركز المسيحي الأوّل في قمّة السلطة؟
مَن يدافع عن الوجود المسيحي في لبنان: الذين يتمسكون بالمناصفة بين المسلمين والمسيحيين، كما نص عليها اتفاق الطائف، والاستمرار بوقف العد والتعداد والإحصاءات السكانية على أنواعها؟
أم أولئك الذين تؤدي سياساتهم ومواقفهم إلى تأزيم الوضع السياسي، وتعريض الأمن والاستقرار للاهتزاز، فضلاً عن الدعوات المستمرة إلى الخروج من صيغة الطائف بالمناصفة، إلى مؤتمر تأسيسي جديد يأخذ بالمثالثة، على حساب حصة المسيحيين الحالية في السلطة؟
من يريد أن يُعزّز المشاركة ويصون الدور المسيحي الفاعل في النظام السياسي: المنادون باعتماد القانون الانتخابي الأرثوذكسي والتقوقع في دوائر ضيقة ذات أغلبية مسيحية فقط، أم أولئك الذين يلتزمون ثوابت الشراكة الوطنية في الانتخابات، وفي كل قضايا المصير الواحد بين اللبنانيين، والحفاظ على الدور المسيحي الوطني والقومي، والذي لا يقف عند حدود الوطن الصغير، بل يتجاوزه إلى الآفاق العربية والدولية الرحبة؟
* * *
لا ندري ما هي المعارك السياسية التي خاضها العماد عون وربحها، على امتداد تجربته في العمل السياسي، منذ تسلم السلطة في نهاية ولاية الرئيس أمين الجميل في خريف 1988، على رأس حكومة عسكرية بتراء، بقي وزراؤها من لون طائفي واحد، بعد استقالة الضباط المسلمين منها!
ولكن ثمة مفارقة حاضرة في مختلف مراحل التجربة العونية الملتبسة، تتعلق بتحالفاته الداخلية أو الخارجية، والتي تنتج عنها دائماً اضطرابات على الأرض واهتزاز في السلطة.
إثر عقده التفاهم الأوّل مع نظام صدام حسين أوائل عام 1989، اندلعت حرب التحرير ضد الجيش السوري، والتي انتهت بتكريس الوجود السوري، وإيقاع أفدح الخسائر في البنية التحتية، وتعطيل مؤسسات الكهرباء، التي ما زالت الأعطال تنهش فيها حتى الآن! وكان أن ارتد عون إلى حرب الإلغاء ضد «القوات»، ونتائجها لا تحتاج إلى مزيد من الحديث!
التفاهم الثاني كان في شباط 2006 مع حزب الله، ونتج عنه احتلال الساحات ومحاصرة السراي الحكومي، وإحداث الشغور الرئاسي الأوّل بعد انتهاء الحرب، وصولاً إلى أحداث 7 أيار الأسود، والتي انتهت بتسوية الدوحة التي سرعان ما انقلب عليها فريق عون!
التفاهم الثالث بدأ مع «القوات» منذ فترة وجيزة عبر «إعلان النيّات»، الذي خيّل لعون على إثره، أنه امتلك الساحة المسيحية بكاملها، فطرح إجراء الاستفتاء بين المسيحيين على رئاسة الجمهورية، ثم حوّله إلى «استطلاع»، تراجعاً أمام ضغوط الرأي العام، وها هو اليوم يدعو المسيحيين للنزول إلى الشارع، وإعلان الانفجار والعصيان، في مغامرة جديدة، لا تبدو فرص النجاح فيها أفضل من سابقاتها!
إلى أين يريد عون أن يأخذ اللبنانيين، والمسيحيين خاصة؟
الجواب عند الجمهور المسيحي أولاً وأخيراً!