IMLebanon

حروب هادئة

بعد سورية والعراق وليبيا، دخل اليمن ومصر (سيناء) مرحلة الحروب المديدة، فيما تنتظر دول عربية أخرى المصير ذاته.

لا حلول سياسية في الأفق. المبادرات والاقتراحات حول تجميد الصراع هنا وتطبيق اتفاق هناك أو انتظار نتائج المفاوضات الأميركية– الإيرانية هنالك، مجرد أوهام تصدر عن جهات تجهل -أو تتجاهل لا فرق- عمق الكارثة التي تضرب المنطقة.

يُسوّق المبعوث الدولي إلى سورية ستيفان دي ميستورا مشروع وقف القتال في حلب كخطوة أولى لبدء المفاوضات بين المعارضة ونظام بشار الأسد. لا شيء يدعو إلى الهزء أكثر من هذه المقاربة، فهي تقفز فوق الحقيقة البسيطة التي يعرفها مجرد من قرأ الصحف عن الوضع السوري وليس من تابعه متابعة دقيقة: لا يريد بشار الأسد، ولا القوى التي تدعمه أيَّ حل تفاوضي أو تسوية سياسية من أي نوع. ظهر ذلك عشرات المرات، وآخرها كانت في مؤتمر «جنيف 2». النظام السوري نظام قوة عارية مادون سياسي، لا يستطيع أن يشارك أو يدير عملية تسووية من دون أن تفرض نتائجها عليه فرضاً، سواء من «حلفائه» أو من موازين القوى الميدانية، وهذان الامران غير متوافرين الآن.

السيد دي ميستورا حرٌّ في أن يعتقد أن التاريخ بدأ مع توليه مهماته، لكنّ عليه وعلى المتفائلين بقدرته على تحقيق تقدم عجز عنه المندوبان السابقان وفريقاهما، ألا يفاجأوا عند اصطدامهم بألاعيب لم يخفِ النظام منذ الأشهر الأولى للثورة، وعلى لسان وزير خارجيته وليد المعلم، نيته إغراق الموفدين فيها.

وهذا ليس إلا مثال واحد على القصور الشديد للعمل السياسي الذي يفترض أن يوازي ويرافق القتال ويسعى إلى وقفه. ومع الأخذ في الاعتبار الفوارق الجلية بين الحالات المختلفة، يمكن القول إن أزمات الدول العربية ما زالت بعيدة من الحل، اللهم إلا إذا صدقنا بيانات وزارة الدفاع العراقية.

لنأخذ مصر نموذجاً آخر. تدور في سيناء حرب أهلية بالمعنى الدقيق للكلمة. تجاوز الوضع هناك مسألة خلايا إرهابية ضللها فكر تكفيري وافد. التكرار شبه اليومي للهجمات على قوات الجيش والشرطة ومشاركة أعداد كبيرة من المسلحين يقولان شيئاً آخر، يقولان إنه تمرد واسع النطاق تمتد جذوره إلى عقود ماضية. لم تُبْدِ السلطات المصرية أيَّ رغبة في إضافة شيء إلى ترسانة المعالجات الأمنية الفوقية. مداهمات واعتقالات للعشرات من أبناء العشائر، الذين يردون بالمزيد من الابتعاد من الدولة والعداء لها. في غضون ذلك، يُعتقل صحافي فرنسي «لتحدُّثه في السياسة» في مقهى، وطالبٌ لحمله رواية صدرت قبل اكثر من نصف قرن.

من لا يرى الخلل في تجاور الحوادث هذه وتراصفها لن يرى –قطعاً- الدرْك الذي تتردى فيه منظومة الدولة والسلطة في مصر، أكبر بلد عربي سكاناً وموئلُ الآمال (المحطمة منذ 2012) بإصلاح جدي للدولة العربية.

وسائل الإعلام الكبرى تقدِّم المعارك في الدول العربية، الدائمة منها مثل البلدان المذكورة أعلاه والمتقطعة مثل لبنان، على أنها من طبائع الأمور. بالفعل، دخل التفكك العربي وانهيار مؤسسات الدولة والمجتمع حيز «العادية» والظواهر اليومية التي لم تعد تستحق الإطناب أو التحذير. انتهت حقبة الدول التي رسمها الاستعمار الغربي وافتُتح عصر الخرائط الجديدة ترسمها قوى على جدول أعمال الانتقام من التهميش والإقصاء والفقر والتخلف، بتعميم المزيد منها.

مسار الخرائط الجديدة يُرسم بعددٍ مرشح للتزايد من… الحروب الهادئة.