ليس في مقدور محتج غاضب او متظاهر في الشوارع ضبْط انفعالاته في معرض مقاربته ما يجري من حوله. حتى ان من غير المنطقي مطالبته، في عز انتفاضته، بالتصرف خلافا لطبيعة المواجهة نفسها. هذه صفات من هو «ممسك بالأرض»، او من هو «موجود على الأرض»، لكنها ليست صفات من يفترض به التفكير والتخطيط والقيادة. وبالتأكيد ليست صفات من ينطق ويتحدث ويفاوض. وهنا مشكلة الحراك الاساسية.
في لقاءات مع تسعة ممثلين عن مجموعات ناشطة في الحراك، كان لا بد من فهم انهم يملكون حضوراً، لا سيما أن لغالبيتهم باعاً طويلاً في التحركات المطلبية القطاعية السابقة (اقتصاد، بيئة، أملاك عامة، حقوق انسان…). لكن هؤلاء، المشاركين في ادارة انشطة كثيرة من الحراك القائم منذ 17 تشرين الأول، يصعب على أحد تقدير الحجم الفعلي لتأثيرهم على مسارات الحراك. وهذا ما يفرض التعامل معهم بواقعية توجِب عدم إلزامهم بكل ما يحصل في الساحات والطرقات.
هذه اللقاءات، تفيد في فهم الآتي:
أولاً: إن معرفة حجم الأزمة الفعلية التي يواجهها لبنان لم يكن متلازماً مع أي تقدير بأن الناس ستخرج الى الشارع بهذه الطريقة. ولم يكن أحد يقدّر كيف ستكون الامور. والكل أقرّ بأن التصرف كان يتم لحظة بلحظة ويوماً بيوم. وان احداً لم يكن لديه برنامج متكامل بشأن طريقة التحرك وأدواته وأشكاله، ولا بشأن الشعارات التي ترفع، ولا بشأن خطة العمل والتصعيد والتراجع والتفاوض. وهذا الامر دفع هؤلاء، كما غيرهم، الى التصرف بشيء من اللامسؤولية أمام فكرة ان يبقى الحراك من دون قيادة ومن دون وجهة واضحة الاهداف والمطالب.
ثانياً: لا وجود لأي آلية للتنسيق بين القوى والمنظّمات والجمعيات، كما لا يمكن تخيّل آلية من هذا النوع. وهربت «المجموعات» والقوى والشخصيات نحو الحديث عن العفوية الكاملة. ثم صارت أسرى هذا التوصيف الذي عقّد مهمة خلق آليات التنسيق والاشراف والعمل. وبعدها صار كل هؤلاء ينفون قدرتهم على ادّعاء النطق باسم الناس. وبدل المعادلة الطبيعية التي تقول إن هناك من يقود وينطق، لجأ هؤلاء الى معادلة التماهي مع انفعالات الناس، وتحويل صراخهم الى شعارات وآليات عمل. وعمد الجمهور مرارا الى تحديد الخطوة التالية، بينما يركض هؤلاء خلف الناس المتنقلين بين ساحة واخرى وبين شارع وآخر. كما كان لذلك الاثر الاكثر تعقيداً حيال ترك الجمهور فريسة لوسائل اعلام هي حكما جزء من الطبقة الفاسدة في البلاد، وحيث ظهر الاعلام، مرة جديدة، على هيئة احد اركان النظام المستهدف.
ثالثاً: تراجُع من يفترض بهم القيادة عن المبادرة الى الدور المطلوب، وترك الحراك وناسه عرضة للنهب المنظم من قبل قوى وجمعيات ومنظمات وشخصيات، هم من اركان السلطة نفسها او من اركان شركة المضاربة، او حتى من قبل من يعرضون انفسهم كبدائل، وبعضهم جربه الناس في السلطة مرات. عدم المسارعة الى تنظيم الحراك من خلال خلق آليات التنسيق جعل آخرين، سواء كانوا مخلصين في غاياتهم او يصطادون في مياه الأزمة، يتقدمون الصفوف، وصارت المبادرات تتجاوز الكلام العشوائي على الشاشات الى مستوى الاستعداد لمحاورة السلطة. علما ان عدم حصول ذلك كان بسبب الفوضى نفسها التي زادت منها الخلافات الحقيقية والعميقة بين هذه المجموعات، وهي خلافات لا يمكن تغطيتها بشعر وطني يستخرج من خزائن الدولة البالية.
رابعا: ان المشتركات بين المتظاهرين العفويين، او بين المجموعات الحزبية او الاهلية او غيرها، لم تكن كافية للتفاهم على لائحة الاهداف الواقعية. وبدل التصرف بواقعية ازاء ان خصمهم يمثل حالة جدية في البلاد، تصرف هؤلاء على اساس ان الشارع اجتاح جميع القوى المتنفذة في السلطة. وهذا تصرف ساذج ان لم يكن اكثر، خصوصا عندما يغرق الفاعلون بين المتظاهرين في لعبة الارقام حول اعداد المشاركين في الحراك. وكل ذلك جعل الجميع من المعنيين على الارض يهربون الى كلام عام، والى شعارات عامة، والى رفع السقوف بطريقة تذكر بالحملات الانتخابية. ما تقدّم شكّل عطبا مركزيا في الحراك، خصوصا بعد مباشرة الحكومة، على تعاستها، بالتفاعل معه، علما ان هذا التفاعل ظل قاصرا ومعبّرا عن مكابرة وإنكار، وهي سمة لا تزال بارزة في أداء كل فريق السلطة.
تراجع من يفترض بهم القيادة عن المبادرة الى الدور المطلوب وتركوا الحراك وناسه عرضة للنهب المنظم
خامسا: لم يكن الناس بحاجة الى من يوجه اليهم الدعوة للنزول الى الشارع، لأن الجمهور كان يراقب مسار الحراك، وصار يتفاعل معه ايجابا او سلبا بحسب ما يراه او يسمعه. وبدل ان يدرس من يفترض به دور القائد حالة الشارع بعد اسبوع من انطلاقة الحراك، بقصد انتاج آليات تنظيم الخطوات بالتوالي، هرب هؤلاء نحو الدعوات المفتوحة التي تعطل مهمة التنسيق، وهي دعوات خلطت الحابل بالنابل. وعندما سارعت قوى كثيرة الى اطلاق اوسع عملية قذرة للاستيلاء على حراك الناس، لم يُظهر الذين يعتبرون انفسهم في موقع المحرك والموجه اي مسؤولية عملانية في حماية الحراك وتحصينه. وسمح هؤلاء، لقلة، نعم قلة، تنتشر بين ناشطين فاسدين، واعلام فاسد، واحزاب فاسدة، بان ينتجوا عملا مؤثرا، عبر ترك الامور مبهمة وعامة، وكل ذلك بقصد منع تبلور قيادة قادرة على استثمار الحراك بما يخدم قضايا الناس.
سادسا: بدا ان الجمع الكبير غير قادر على التعامل مع الانقسامات السياسية في البلاد. وبدل التنبه الى مخاطر تقديم العناوين السياسية الخلافية على العناوين الاصلاحية المشتركة، غرق من يفترض ان بيدهم الامر في لعبة التشنج، والتفاعل سلبا مع اي اعتراض او تشكيك او رفض لما يقال هنا وهناك، وصولا الى حدود ان من يتظاهر من اجل حفظ حريته في التعبير والتغيير، لم يعد يتحمل الرأي المخالف. (هذا الكلام لا علاقة بأي غزوة همجية تعرض لها المتظاهرون، وهي تبقى فعلا بشعا قامت به مجموعات تخضع لاجندة سياسية وحزبية). لكن الضيق يتصل بالمعارك العشوائية التي قامت على المنابر المنتشرة كالفطر في الاعلام ووسائله المختلفة. وهو ما عزز بعض الشكوك عند مَن لديه حذره الكبير من مآلات حراك لا يمكنه تنظيم نفسه. وهذه مسألة ليست تفصيلية، لان بين المؤثرين في هذه المنابر من يعتقد أن التغيير يجب ان يكون شاملا من حيث الوجهة السياسية الكبيرة. وهؤلاء ليسوا في اوضاع شخصية او اجتماعية او وظيفية يمكن اعتبارها اوضاع المقهورين فعليا، حتى ولو كان بينهم من يريد الاحتجاج على سياسات فاشلة في الادارة العامة للدولة ومؤسساتها. لكن المهم هنا الاولوية التي تتحكم بعقولهم وسلوكهم، وهي اولوية لا تتطابق مطلقا مع اولوية الذي يريد علما وعملا وطعاما وعلاجا من دون اذلال. ومن استسهل اختفاء الفروقات الطبقية والاجتماعية بين كتلة المتظاهرين، اخذه الفولكلور نحو الوحدة الوطنية بشكلها التقليدي الرديء. وبالتالي، استسهل غياب الاطار المنطقي الذي ينتج ملفا او عنوانا او هدفا يمكن من خلاله الدخول فعليا في مرحلة تغيير شاقة.
لذلك، ليس بيد احد، من الاكثر فهما لواقع لبنان السياسي والاقتصادي والاجتماعي، الا اللجوء الى هدوء في العقل وفي التفكير. اما غضب الناس، فأنا – شخصيا – كنت ولا ازال، اراه فاعلا بعفويته، عندما يتحول الى عنف مركز على من يسرق المال العام، بمعزل عن هويته وموقعه ومكانه. والعفوية هنا، تسبق اي تظاهرات او اعتصامات يمكن ان تقود لاحقا الى تغيير حقيقي.
ليس من باب الضغينة، لكن من باب القهر، يمكن مراقبة صور الساحات التي يتراجع عدد الحاضرين فيها، وبعضها خلا من الناس، بينما لم يحطّم المتظاهرون باب اي مؤسسة من مؤسسات الفساد المتجمعة في قلب بيروت المنهوب!
من ملف : الصراع على الحكومة