السؤال الذي ألحّ عليّ منذ 2011 هو الآتي: ما الذي حلّ بالمثقفين السوريين؟ ما الذي دفع بأغلبيتهم إلى مواقف تناوئ المثقفيّة ذاتها بصفتها جدل الضمير والرؤية والنقد والصدقية؛ بعضهم نحو الليبرالية المنتهية إلى أحضان الاستعمار والخليج، وبعضهم إلى أحضان الرجعية الدينية، وبعضهم ـ الأفضل ـ إلى براغماتية تستغلّ ما تدينه من إرهاب، لتحصيل مكاسب سياسية، وبعضهم إلى الصمت؟
هل كان عبء القمع ثقيلاً إلى الحدّ الذي حوّل المثقفين السوريين إلى روح الانتقام والذهاب إلى الخندق المضادّ لقيمهم، وحتى العداء لوطنهم، أو ابتزاز دولتهم بالإرهابيين والمعتدين الأجانب؟
لا يمكن، بالطبع، إنكار واقع الإلغاء السياسي الذي ساد سوريا لعقود، وحين بدأ النظام يوسّع دوائره، منذ عام 2000، كان القادمون إلى التفاهمات رجال الأعمال، لا رجال الثقافة. ومع ذلك، كيف يمكن أن ينحدر المثقف، ليبرالياً كان أو ماركسياً أو قومياً، إلى درك التحالف مع أعداء وطنه، مع الفاشية الدينية والإرهاب، تحت عنوان «ثورة» كان واضحاً، منذ اليوم الأول لانطلاقها، أنها، في جوهرها، هجمة إمبريالية ـ رجعية، ليس من أجل فولتير، بل من أجل نتنياهو؟ (لم أذكر الإسلاميين بين أصناف المثقفين، لأنه ليس لديهم، بالأساس، هذا النوع من النخب، ولا يمكنهم، بالأصل، التعاطي مع مفهوم المثقفية ووجدانها).
نائب الرئيس السوري، المثقفة ـ بالمعنى الشامل للكلمة ـ الدكتورة نجاح العطار، حدثتني، بإسهاب وبالتفصيل، عمّا كانت تقوم به ـ خصوصاً حين كانت تحمل حقيبة وزارة الثقافة ـ من رعاية حثيثة، متعددة الأبعاد، عامة وشخصية، للمثقفين السوريين. سألتزم، هنا، كما وعدتُ الدكتورة العطار، بعدم ذكر الأسماء والمواقف والحوارات، غير أنها أسماء «كبيرة»، ومواقف مؤثرة، وحوارات في العمق، ما أقنعني بأن مرويات المثقفين السوريين المعارضين عن القمع والتهميش إلخ، مبالغٌ فيها، أحياناً إلى حدّ الفبركة. صحيح أن ظاهرة الاعتقال السياسي طالت العديد من المثقفين ـ المسيّسين ـ المعارضين، لكن الهامش المتاح أمام المثقف والفعل الثقافي كان واسعاً، وكانت مطالب المثقفين تؤخَذ بالاعتبار من خلال الرعاية التي منحها الرئيس الراحل حافظ الأسد لوزارة الثقافة ووزيرتها. وهو ما استمر، كذلك في عهد الرئيس بشار الأسد.
ما الذي حدث إذاً؟ كيف انهارت الثقافة السورية مع انهيار الأمن وانتشار الفوضى، وبدء الحرب الوطنية الكبرى ضد الغزو الإرهابي الوهابي التكفيري العثماني الغربي؟ كيف غابت الضمائر، وكيف تفشّت روحية الانتقام والانتهازية؟ وكيف تلطّخت أسماء، وصمتت أسماء، واندرجت أسماء في استغلال مأساة الوطن؟
منذ اللحظة الأولى لمّا يسمى «الثورة» السورية، كان واضحاً لكل صاحب ضمير أن المطالب الإصلاحية المشروعة لم تكن، بالمعنى السياسي الواقعي، سوى شعارات للاستهلاك الإعلامي، بينما كانت أيديولوجية تلك «الثورة»، الفعلية، دينية طائفية تكفيرية استئصالية، وقوتها الرئيسية ناجمة عن الدعم الخارجي من قوى إمبريالية ورجعية، وسعيها الفعلي هو تدمير الدولة السورية. كيف باع المثقف السوري المعارض نفسه للكذبة الإقليمية الدولية؟ كيف انخرط في خندق واحد مع الإرهابيين؟ كيف وجد أن تدمير سوريا يمنحه فرصة ما؟
بالمقارنة مع المثقفين المصريين الذين جمّدوا مطالبهم المحقة، لكي يقطعوا الطريق على الإخوان المسلمين والإرهاب وتدمير مصر بالحرب الأهلية، ووقفوا إلى جانب جيشهم الوطني حفاظاً على كيان الدولة الوطنية، من حق المراقب أن يتساءل عن سقوط العديد من المثقفين السوريين في موقف مضاد.
المشكلة، كما أرى، ليست أخلاقية، كما أنها لا تتعلق بالقمع. فمن بلدي سأذكر مثلاً واحداً يتعلق بمناضل بعثي معروف، قضى في السجون السورية أكثر من عشرين عاماً. لكن مجلّي نصراوين، منذ اليوم الأول للحرب على سوريا، كان في مقدمة الناشطين للدفاع عنها، وعن النظام الذي أودعه المعتقلات حتى شاخ!
أحسب أن المشكلة الجوهرية تتعلق بالهوية الوطنية السورية الجريحة باقتطاعات سايكس بيكو والاغتصاب الصهيوني والتركي. فلا هي تطابقت مع الجمهورية العربية السورية بحدودها السياسية القائمة، ولا مع سوريا بحدودها الطبيعية المتوخاة، بينما جرى تبنّي هوية عربية فضفاضة أوسع من المجالين السياسي والجغرافي لسوريا. وهو ما جعل الجمهورية معوّمة الهوية الوطنية.
السؤال الثقافي الوطني السوري، اليوم، مركزي وتأسيسي. سوريا، بالطبع، عربية. لكن صار عليها الآن، بعد أربع سنوات من الفوضى، أن تحدد هويتها الوطنية الخاصة؛ فإما الذهاب نحو هوية سوريا /الجمهورية ـ وهو ما ألاحظه الآن كتيار يتسع بين السوريين ـ وإما الذهاب، بلا تردد، نحو هوية سوريا الكبرى، ما يفرض الشروع في ثورة ثقافية لا تحتمل التأجيل.