حزينٌ ومرتبكٌ قرار زياد الرحباني بمغادرة لبنان. سرّب إلى قلبي، لأول مرة في الـ 55 عاماً التي عشتها، نغمة يائسة. حقاً ما الذي يمكن لليساري العروبي العلماني أن يفعله في هذه المنطقة التي انحطّت إلى الخيارات القاتلة. في حرب القبائل، ستُطحَن حين تختلف قليلاً، قليلاً جداً مع حلفائك.
«داعش» أسقطت كل تلك المنظومة القائمة على التحريم والتحليل. لم ينتبه حزب الله إلى أنه بالسقوط السياسي والأخلاقي للحركات الجهادية أصبح، ومجتمعنا كله، يواجه مهمة عاجلة وضاغطة تتمثل في إعادة قراءة شاملة للإسلام، تحرّر الإنسان من القيود المفروضة باسم المقدّس، لصالح الضمير البشري الدنيوي، وقبول الآخر، لا تكتيكاً ولا تعايشاً، وإنما بالاعتراف به، وبحقه في الاختلاف والحضور.
ببساطته العميقة، لخّص زياد الرحباني، مأساة العلاقة بين حزب الله واليساريين، والقوميين السوريين الاجتماعيين والعلمانيين؛ هؤلاء الذين يقبعون في خندق المقاومة، ولكن حزب الله لا يعترف بهم؛ ليس ذلك نكراناً للمقاومة الشيوعية والقومية، فقط، وإنما هو خيار أيديولوجي؛ أزمته أنه لم يعد قابلاً للحياة.
تخطر لي، هنا، مأساة ثلاثية الحب المستحيل: (أ) واقع في غرام (ب) لكن (ب) واقع في غرام (ج) الذي لا يبادل (ب) الحب، ويتنكّر له: اليساري ــــ القومي يحب حزب الله ويتعلق به، لكن حزب الله يحب الإخوان المسلمين ويتملّق حماس تحت يافطة المقاومة، بينما الإخوان وحماس يتنكرون لحزب الله، يأخذون منه ولا يعطونه، ولا حتى يذكرونه بخير، تماماً مثلما يفعل حزب الله مع اليساري والقومي.
في حمأة الصراع الدولي الناجم عن أزمة الرأسمالية العالمية، وتفكك نظام القطبية الأحادية، تتجه الإمبريالية إلى تبني الحركات الفاشية كأدوات للتدمير، تدمير العقول والبلدان وذبح البشر وبث الرعب الكونيّ؛ وأبرز الفاشيات التي يتبناها الغرب، اليوم، هي الفاشية الدينية، الصهيومسيحية والصهيواسلامية؛ والأخيرة أزخم وأرخص وأكثر انفلاتاً وفعالية. ومنذ أفغانستان حتى سوريا، تطورت هذه الفاشية على نحو سرطاني، ليس فقط جراء الفشل التنموي في البلدان العربية والإسلامية، ولكن، أيضا، بسبب الدعم الاستخباراتي الغربي والتمويل الخليجي والمشروع العثماني الجديد، تحولت هذه الميليشيات إلى جيش المشاة العالمي للإمبريالية. وفي أساس كل هذه العملية، يكمن الفشل في مشروع التنوير العربي والعجز عن القيام بثورة ثقافية تموضع الدين والتراث العربي الإسلامي في الثقافة الحديثة للإنسانية.
لم يعد بإمكان حزب الله أن يتجاهل كل ذلك؛ ولم يعد ممكناً الدفاع عن صورة أخرى لإسلام جهادي لا يرتبط بالإقصائية والذبح والجزية والتهجير وفرض نمط ثقافي سلوكي واحد على البشر؛ كل هذا الصراع الدامي سيقود العرب، في النهاية، نحو العلمانية؛ لا نجاة للعرب، وخصوصاً للمشرق العربي الفسيفسائي، من دون العلمانية.
بعد تجربة حزب الله المريرة مع حماس والإخوان والتنظيمات التكفيرية بقيادة السلطان الإخواني، أردوغان، لم يعد أمامه سوى طريقين لا ثالث لهما: الاستمرار في خوض الصراع في ثوب طائفي أو الذهاب إلى تحالف جدي علني مع اليساريين والقوميين، لا يتم بالتعاون تحت الطاولة، وإنما سياقه التاريخي الذهاب إلى حوار في العمق ينتقل من الفقه التقليدي إلى فقه التحرير؛ ليس تحرير الأرض فحسب، وإنما، أيضاً، تحرير الإنسان من كل قيد خارجي على ضميره الفردي.
مطلب الرحباني في إعادة كتابة تاريخ المقاومة في لبنان أساسي من أجل بناء تحالف لمقاومة شاملة قادرة على استقطاب المناضلين من كل الفئات. حسناً، لم يعد الصمت عن المساهمة التاريخية للشيوعيين والقوميين السوريين في اطلاق المقاومة ضد العدو، مقبولاً؛ لا بد، اليوم، من كتابة واعلان سردية واحدة تعددية لحكاية المقاومة في لبنان، ولحكاية النضال الوطني التحرري الذي خاضته الحركات العلمانية في البلدان العربية.
غضب الرحباني العلني لامس وجداني، ووجدان رفاق كثيرين، لطالما ناقشوا ذلك المسكوت عنه، ووضعه زياد على الطاولة؛ هل سيكون هناك حوار جدي؟ أم تجاهل وصمت إزاء الأزمة الفكرية السياسية التي يعيشها حزب الله، ونعيشها معه.
هل شهد التاريخ حركات مقاومة لا تفجر حركات ثقافية إنسانية وحوارات وسجالات فلسفية وروايات وشعراً وموسيقى الخ؟ كلا. فقط في المقاومة الإسلامية في لبنان وفلسطين؛ يعود ذلك ، بالأخير، إلى عقلية التحريم، كما يكمن جذره في ما قاله زياد عن انعدام وجود برنامج اجتماعي ــــ اقتصادي للمقاومة في بناء الدولة اللبنانية؛ المقاومة لديها فائض قوة والدولة اللبنانية لديها فائض ضعف؛ المقاومة ناجحة والدولة اللبنانية فاشلة… هل من الممكن استمرار هذه المعادلة؟
حزب الله يمكنه أن يحسم معركة عرسال عسكرياً، لكنه لا يستطيع ذلك سياسياً، طالما أن فائض قوته محشور في بعدها الطائفي؛ تصوروا لو أن المقاومة تعددية سياسياً وطائفياً، هل كان حدث ما حدث في عرسال، وما يمكن أن يحدث في طرابلس؟
حزب الله ناجح في إعادة الإعمار الجزئي، ولكن لبنان خرب ومنهوب وتسيطر عليه طبقة سياسية تحكم بالفشل وللفشل.