عندما يجِد زعيم من وزن سعد الحريري نفسه مجبراً على تجرّع العلقم، والنزول بثقله إلى ميدان تيار المستقبل، فذلك يعني أن شيئاً خطيراً يحوم فوق سماء تيّاره، وأن ما يفعله اليوم هو لمنع وقوع انفجار محتمل في قلب فريقه، أو السيطرة على تداعياته إلى حين.
وصل الرجل إلى زاوية «زُرك» فيها بين تيارين داخل «مستقبله»: «إصلاحيون» يحملون شعار «الواقعية السياسية في الرؤية والممارسة»، يشكلون «الدائرة الضيقة» حوله، وهم نادر الحريري وهاني حمود وغطّاس خوري وباسم السبع، وانضم إليهم لاحقاً وزير الداخلية نهاد المشنوق؛ و«محافظون» يعيشون في زمن التنظير، يقودهم الرئيس فؤاد السنيورة. الهوّة بين التيارين أوسع وأعمق من أن تردم. غير أن ما تتفوّق به الدائرة الضيقة، هو إحكامها على دفّة القيادة، بحيث «يخضع» الحريري في النهاية لآرائها وأفكارها واستشاراتها.
في السياسة، لا يخضع هذا الخماسي لنصوص ثابتة ولا لمطلقات مقدّسة، ولا توجد لديه عداوات دائمة أو صداقات مستمرة. ويبدو أكثر ميلاً الى حسم كثير من الخيارات التي يعتبرها آخرون «مغامرة» على قاعدة أن «الشارع يلحق بالرئيس الحريري كيفما ذهب»، بدءاً بالمساكنة مع حزب الله، مروراً بترشيح الوزير سليمان فرنجية، وصولاً إلى ما يُحكى اليوم عن دفعها بالرئيس الحريري إلى تبنّي خيار انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية.
على عكس «المحافظين» الذين تظلّلهم عباءة السنيورة، ترسم هذه الدائرة قواعد تحدد مسار تحركاتها، وهي قائمة على مبدأ أن «التسوية» ضرورة بغض النظر عن مدى استيعاب الشارع المستقبلي لها. المهم هو «ما الذي يُمكن تقديمه على أي طاولة مفاوضات، وكيفية التنازل في اللحظة المناسبة، والمكاسب التي يُمكن تحقيقها من وراء هذا التنازل في ملف هنا أو ملف هناك».
يُعرف عن الحريري والمشنوق والسبع وحمّود وخوري أنهم أصحاب عقول باردة براغماتية. اتجاهاتهم ليست عقائدية، وهم ميّالون إلى الليونة السياسية والذهاب نحو الهدف مباشرة، متجاوزين التعقيدات المرتبطة بالاشتباك السياسي، إلى حدّ التنازل في مسائل معينة في سبيل الاستمرار والاستقرار. وهم أبناء مدرسة رفيق الحريري التي تتقن فنّ تدوير الزوايا للخروج بتسويات الحدّ الأدنى بدلاً من تعطيل النظام، وتحقيق المطلوب ضمن حدود اللعبة السياسية. والأمر لا يرتبط، حصراً، بما يروّج عن دفع هذه الدائرة الرئيس الحريري للعودة إلى خيار مرشّح الرابية. لا بل إن أحد أعضائها يؤكد أننا «نريد رئيساً، أكان عون أم فرنجية أم أي شخص آخر، لأن وضع البلد لا يحتمل، وخصوصاً الوضع النقدي». وبالتالي، فإن «الذهاب نحو أي تسوية تعيد الحيوية إلى النظام السياسي هو الهدف الأول من تحرّك الرئيس الحريري الأخير». التأثير الحقيقي لهذه الدائرة بدأ يظهر عام 2014، حين صرّح الحريري عقب حضوره جلسة بدء المحاكمات في جريمة اغتيال الرئيس الحريري بـ«أننا نريد العدالة لا الانتقام»، مبتعداً عن اللغة الصدامية التي قادها السنيورة منذ عام 2005. وكرّت المسبحة حين فضّل الرجل فتح باب الحوار الثنائي مع حزب الله، برعاية الرئيس نبيه برّي، رغم كل التصويب المستقبلي، محيّداً النزاع الأساسي على سلاح الحزب وقتاله في سوريا، ومنظّماً هذا الحوار تحت سقف تخفيف الاحتقان المذهبي وتحديد الخلاف حول ملفات داخلية. في الكواليس، يعرف الجميع أن هذه الدائرة كانت المروّج الأول لفكرة فتح باب الحوار، ووفرت له غطاء الحماية للاستمرار، رغم كل المطبّات التي واجهها، أبرزها «الحرب» السياسية التي اشتعلت بين الحزب والمملكة العربية السعودية، إثر تصنيف الحزب «منظمة إرهابية». وظهر حجم هذا التأثير حين تخلّى الحريري لاحقاً عن مرشّح فريق 14 آذار سمير جعجع، وهرول أول مرّة باتجاه الرابية، ومن ثم بنشعي، من دون الرجوع إلى رأي كتلته النيابية، وعلى رأسها السنيورة.
ومنذ خروج الحريري من السلطة، تحاول هذه الدائرة تغليب منطق الواقعية على المبدئية السياسية التي تروّج لشعار «المواجهة حتى النهاية». وهو شعار سار به المستقبل في عهد الحكومات التي ترأسها السنيورة، ورفض التسوية مع حزب الله وحركة أمل بعد خروجهما من الحكومة، ومن ثم دخل لعبة المحكمة الدولية والتآمر على سلاح المقاومة، معتمداً خطابات عالية السقوف فوق منابر 14 شباط وآذار.
تبعثُر التيار وانقسامه على نفسه وخروج بعض وجوهه الأساسية، دفعت بهذه الدائرة إلى التخلّي عن الكليشيهات والقوالب الجاهزة غير المجدية، والبحث عن سبل لتحقيق مصلحة الحريري عبر تفعيل دوره، الذي لن يكون إلا عبر دخول السلطة من بابها الواسع، في ظل التخلي السعودي، وتراجع الوضع المالي والتقهقر التنظيمي، واستهتار المجتمع الدولي بالملف اللبناني.
قد تكون الأحداث الأخيرة داخل تيار المستقبل، منذ عودة الحريري للوقوف على خاطر نوابه وجمهوره، مناسبة للسؤال عمّا إذا كانت هذه الدائرة لا تزال تحافظ على دورها المؤثر. ثمة نظرة عند غير المستقبليين، تقول إن هذا الخماسي لا يزال الأوفر حظاً لكسب ثقة الحريري، لكن معطيات جديدة تجبره، أقله، على مراعاة من هم خارجه. في السابق كان الحريري هو رمز المال والسلطة والسياسة خارج التيار وداخله. أما وقد انكشف مالياً بسبب أزمته، وسياسياً بسبب الضربة الانتخابية التي تلقّاها في بيروت وطرابلس، وتنظيمياً حيث بات كل مستقبلي هو أشرف ريفي بحدّ ذاته، فقد بات مجبراً على اتباع سياسة التشاور مع رموز تياره، لا بل مع أقل نائب قدرة وتأثيراً في الشارع المستقبلي. همّه تخفيف التداعيات السلبية لأي قرار قد يتخذه، سواء ارتبط بترشيح ميشال عون أو لم يرتبط. هناك من ينصحه بأن يزيل العوائق من بيته الداخلي قبل إقناع الرئيس نبيه بري والنائب وليد جنبلاط بأي تسوية، وإحصاء نوابه المؤيدين لوصول عون، ليجد أن تفلُّت الشارع وصل إلى كتلته النيابية. وقد باتت المشكلة الأكبر هي في تأمين نصاب داخل تيار المستقبل قبل تأمينه في مجلس النواب.