Site icon IMLebanon

إلى متى يبقى معسكر “قوسايا الفلسطيني” شوكة في الخاصرة اللبنانية؟

 

 

 

أما آن الأوان لإخضاعها لسلطة الشرعية

 

 

 

سقط النظام السوري، لكن “امتيازات” فصيله الفلسطيني في لبنان لم تسقط بعد. والسلاح في يد أكبر هذه الفصائل، أي الجبهة الشعبية – القيادة العامة، “باق”، أقله حتى الآن. ومعسكراته لا تزال مستوطنة في أربعة مواقع أساسية في البقاع. يمعن كل منها في الإساءة إلى مفهوم “سيادة الشرعية” و”وحدة السلاح” بيد الجيش اللبناني، ويترجم عجز السلطة السياسية في التوافق على مصالحها الوطنية. وأما الحديث عن ثغرة المعسكرات الفلسطينية الأمنية فليس وليد ساعته، والنقاش حولها متمدّد بصولات وجولات منذ ما قبل اتفاق الطائف. لا بل كان يفترض بعد إلغاء “اتفاق القاهرة” في سنة 1987 أن يسقط بقوة التوافق السياسي الغطاء الإقليمي الممنوح لها منذ سنة 1969. إلا أن الأمر رحّل إلى ما بعد توقيع اتفاق الطائف، فعصى السلاح خارج المخيمات مجدداً على “دستور لبنان الحديث”، خصوصاً ذلك الموضوع بإمرة الجبهة الشعبية – القيادة العامة.

 

 

 

الفصيل الذي وضعه الضابط الفلسطيني أحمد جبريل بإمرة النظام السوري، أطلق نيرانه حتى على القرار 1559. ليبقى وديعة هذا النظام حتى بعد خروج جيشه من لبنان. وقد لعب طيلة 19 عاماً دوراً ثابتاً في حماية مصالح هذا النظام، خصوصاً من خلال مواقعه المتقدمة في منطقة جبل المعيصرة والمعروفة بـ”معسكرات قوسايا”. فأي مصير لهذه المعسكرات بعد سقوط هذا النظام؟

 

 

 

في مركز “حشمش”: “لا دخل لنا بالنظام”

 

قبل أسبوع، أي فجر يوم الأحد في الثامن من كانون الأول الجاري، كنا كصحافيين نكتفي باستراق النظر إلى مدخل مركز الجبهة في منطقة “حشمش” البقاعية المواجهة لسلسلة جبال لبنان الشرقية، خشية من أن يعترضنا أحد عناصر المركز الذين لم ننس بعد جرأتهم في إطلاق النار على لجنة التحقّق الدولية من إنسحاب الجيش السوري من لبنان في العام 2005. اكتفت حينها اللجنة بتسجيل الحادثة ضمن محاضرها، لتتحصن الجبهة في موقعها “العملاني” طيلة الأعوام اللاحقة. غير أن سقوط النظام السوري أسقط رهبة هذه المواقع، مع أن عناصر الجبهة ما زالوا مرابضين في الموقع المطل على مشارف الطريق الرئيسي الذي يربط قرى البقاع المحاذية للسلسلة الشرقية، تحلّينا الجرأة وقصدنا الموقع، وتحدثنا مباشرة مع أحد عناصره.

 

 

 

من على الطرف الثاني لعارضة حديد فصلتنا عن خيمة متهالكة يستريح فيها العناصر المولجين حماية المركز، عرّفنا عن أنفسنا، طرحنا أسئلتنا وهواجس أبناء المنطقة من وجود هذا السلاح بين الناس وفي الأنفاق، حتى أننا طلبنا إذن العنصر لالتقاط صورة لمدخل المركز الذي يقال إنه يضم نفقاً مجهزاً بأحدث التقنيات، فلم يمانع.

 

 

 

سألنا الرجل الستيني عن مصدر الثقة التي يستمدها العناصر للبقاء في الموقع على الرغم من سقوط النظام السوري، فسارع للتأكيد أن لا علاقة للمركز بالنظام، وإنما هو تابع للقيادة التي هي وحدها كما قال “صاحبة القرار بإصدار الأمر بإخلائه”، ويبدو أنه حتى الآن لا قرار بذلك. نفى الرجل أي علاقة تنسيق بين القاعدة والنظام السوري، متجاهلاً الدور الذي لعبته مراكز الجبهة خصوصاً في البقاع بحماية خاصرة النظام السوري أثناء حربه مع معارضيه. وتمسك بأن هذه المواقع وجدت لخدمة القضية الفلسطينية، وتمنى أن تنتهي مهمته ليعود إلى بلده “فلسطين”. إلا ان الرجل يعلم جيداً أن هذا السلاح المغطى باحتياجات المقاومة “الفلسطينية” أعجز من أن يحقق ذلك، حتى من ناحية جغرافية مواقع انتشاره. تابعنا الإصغاء على رغم قناعتنا بالترابط العميق بين مواقع هذه القيادة البعيدة جداً عن مواقع المواجهة المباشرة مع إسرائيل، ودورها في تحقيق مصالح النظام السوري الأقرب إليها. وكان يكفي أن نستعيد بذاكرتنا تحذيرات المتحدث باسم القاعدة أنور رجا من “أن أي عملية عسكرية تستهدف النظام السوري عمل موجه ضدنا”. واجهنا الرجل أيضاً بما حفظته ذاكرتنا حول تعرض العناصر بالنار للجنة التحقق الدولية، فكانت له رواية مخالفة لما واكبناه حينها. وكأنه كان يتحدث عن حادثة مخالفة. ففي روايته أن هؤلاء حاولوا دخول المركز من طريق جانبي ومن دون التنسيق مع عناصره، الأمر الذي جعل العناصر يستنفرون ويطلقون النار ترهيباً. وهذا عملياً لم يحصل، لأن الموكب الأممي تعرض لرشقات تحذيرية قبل أن يخطو خطوة باتجاه مدخل المركز. تابعنا الحديث معه لنسأله أيضاً عن عمر العناصر الموجودين بالداخل، إذ قد يكون بعضهم منسياً في موقعه كما كانت حال العسكر السوري في بعض مواقعه، فاكتفى بالإشارة إلى تبديلات دائمة في العناصر، متوجساً في المقابل من سؤالنا عن أعدادهم. اكتفينا بهذا القدر من الحديث مع الرجل، بعدما بدأ ينزعج من حضورنا. فانسحبنا مع التعويل على زيارة قريبة تواكب بسط يد الشرعية اللبنانية على هذه المواقع، قبل أن يضيق ذرع الأهالي الذين انتظروا هذا الأمر طيلة 19 عاماً، وينفد صبرهم الذي امتد إلى ما بعد سقوط النظام السوري على يد شعبه.

 

 

 

موقع قوسايا بإمرة “حزب الله”

 

تبدو التمنيات هنا مردودة إلى قرار سياسي يخضع السلاح في هذه المخيمات لتفاهمات سياسية مرتقبة مع “حزب الله” تحديداً، ولا سيما في ما يتعلق بتطبيق القرارات الأممية ومن ضمنها القرار 1559. إذ أن “حزب الله” عزز وجوده في مواقع هذه المعسكرات، لا بل أخضع بعضها لإمرته وخصوصاً في منطقة قوسايا.

 

قدم “الحزب نفسه” في هذه المنطقة كقوة مواجهة للتكفيريين الذين زادوا هواجس أهالي قرى السلسلة الشرقية من تسللهم من منطقة الزبداني إثر الأحداث التي شهدتها منطقة القلمون. وهذه كانت الفترة التي عزز فيها “الحزب” دوره داخل معسكرات قوسايا.

 

هذا الأمر يؤكده كتابان موجّهان باسم بلدية قوسايا إلى محافظ البقاع ووزارة الداخلية منذ العام 2020، يشكوان “أمرا واقعاً” فرض على أصحاب الأراضي الزراعية في هذه المنطقة، من خلال قيام “حزب الله” بشقّ طريق واسع يربط بين مراكزه في جنتا وبين الأراضي السورية، تم تزفيته لاحقاً ليصبح أوتوستراداً واسعاً يضمن تنقّل عناصره بحرية تامة.

 

لا عجب في ذلك طبعاً، فمعسكرات الجبهة المرتبطة بالداخل السوري في قوسايا، تحتل منطقة حساسة في موقعها الجغرافي الذي يشرف على نحو 14 كيلومتراً من الأراضي اللبنانية والسورية. هو موقع مطل على كفريابوس، الزبداني، مضايا وسرغايا في الأراضي السورية، وعلى زحلة وعنجر، الفاعور، كفرزبد، عين كفرزبد، قوسايا، رعيت، دير الغزال، ورياق ومطارها العسكري، وأبلح وبدنايل حتى النبي أيلا في الأراضي اللبنانية. تلمّس “الحزب” هذه الأهمية للموقع، فشارك الجبهة في وضع يده على الأملاك الخاصة والبلدية والجمهورية التي نشأ عليها. وعلى الرغم من بعض التفاهمات التي أدت إلى علاقة تنسيق بين أصحاب أراض والفصيل الفلسطيني منذ العام 1982، فقد حرم أصحاب الأراضي من استثمار نحو ثلثي مساحاتها، ليمعن تواجد “الحزب” في الحدّ من حرية أصحاب هذه الأراضي في الوصول إليها.

 

 

 

لم يتعرض الموقع لغارات إسرائيلية مباشرة في العدوان الأخير، لكن معسكراته بقيت مصدر خطر تلمّسه الأهالي طوال فترة العدوان، خصوصاً في ظلِّ ما يحكى عن ترسانة عسكرية كبيرة بات يأويها. وهذا ما يضع أراضي هذه المنطقة وممتلكاتها رهن التوافقات السياسية بنزع كل سلاح غير شرعي على الأراضي اللبنانية، بانتظار ما سيرتبه أيضاً سقوط النظام في سوريا من إجراءات أمنية عند هذا الطرف من الحدود الفاصلة بين البلدين.

 

عند مدخل هذا الموقع لجهة السهل يتمركز حاجز للجيش يُدقق أيضا في هوية الداخلين والخارجين منه. وبحسب المعلومات، فإن حركة توغل عناصره العسكريين تراجعت منذ حادث أمني شهده في شهر أيار من العام 2023، إثر انفجار ضخم أدى إلى مقتل عدد من عناصره، وبقيت حقيقته مبهمة. لم تشهد المنطقة في المقابل حركة استثنائية بعد سقوط النظام السوري، أقله وفقاً لشهادات محلية.

 

 

 

عين البيضا حاضنة الإنشقاقات

 

مع أن مركز “حشمش” هو الأقرب إلى مركز “قوسايا” العسكري، فثمة مركز ثان للجبهة على بعد كيلومترات قليلة أيضاً، يتوسط حقولاً وأراضيَ زراعية في وسط سهل البقاع في منطقة كفرزبد حيث “جبيلِةْ عين البيضا”. لا معلومات دقيقة عما يحويه الموقع، لكن المتداول هو عن ترسانة عسكرية تستقرّ داخل أنفاق، لم تعرف لها وظيفة طوال الأعوام الماضية. وعلى الرغم من عدم استهداف الموقع بأي غارة خلال العدوان الإسرائيلي الأخير على لبنان، فقد نال نصيبه من غارات متكررة استهدفته سابقاً، لا سيما في عدوان تموز 2006. وشهد الموقع أيضاً حركات تمرد عديدة انعكست تداعياتها على أهالي المنطقة الآمنين، كان أبرزها في العام 2010 حين ترافق الإنشقاق مع تبادل نيران بين مركزي قوسايا وكفرزبد ومن فوق رؤوس كل من يقطن بينهما.

 

 

 

خلال أحداث سوريا، عزز الجيش اللبناني انتشاره في محيط هذا المركز، تداركاً لأي احتكاك بين عناصره واللبنانيين. ومع ذلك لم تشهد المنطقة أي توتر جراءها. لا بل سيطر “الروتين” حتى على مهمة العسكر اللبناني الذي يبدو في حالة استرخاء شديد حالياً، وينتظر عناصره مثلهم مثل الناس قرار الإخلاء، الذين أكدوا بأنه لم يتم إبلاغ عناصر الحاجز به حتى الآن. وعليه ما زالت مهمة أحد هذه الحواجز تقتصر على تسجيل أسماء الداخلين والخارجين من الموقع. وذُكر بأن هناك لائحة بأسماء هؤلاء يتم التدقيق بها، مع تفتيش دقيق لسياراتهم التي يتنقلون بها، وغالبا لابتياع حاجياتهم اليومية. فيما مهمة الحاجز الثاني هي التأكد من عدم سلوك عناصر الموقع طريقاً محاذياً، وأيضا التأكد من عدم اقتراب الناس من هذا الموقع الذي تجتاح جباله أحيانا الأغنام السارحة، مع تشديد على ألّا تلتقط الصور الصحافية لهذا الموقع، حتى لو أشبعه الصحافيون صوراً في كل مرة يتوجهون فيها إلى المكان.

 

 

 

 

 

مقاومة موقع السلطان يعقوب من التاريخ

 

في مقابل هذه المواقع الثلاثة المتجاورة في بلدات البقاع المحاذية للسلسلة الشرقية، ثمة موقع رابع للجبهة الشعبية القيادة العامة يغرس في عمق الأرض البقاعية على رغم تراجع أهميته العسكرية. هو موقع السلطان يعقوب المعروف بـ “لوسي” الذي يبدو أنه دخل في طي النسيان في ظل تراكم الملفات اللبنانية. حتى أن إسرائيل بعدوانها الأخير لم تر فيه تهديداً مباشراً يجعلها تضعه من ضمن لائحة استهدافاتها في منطقة البقاع.

 

نشأ هذا الموقع منذ ثمانينات القرن الماضي بالتزامن مع وجود الجيش السوري في لبنان. اكتسبت منطقة السلطان يعقوب بالتزامن شهرتها، من المعركة البرية التي خاضها الجيش السوري بوجه إسرائيل في العام 1982 بالشراكة مع الفصائل الفلسطينية. لكن بعد أربعين عاماً يبدو أن الزمن توقف على مدخل هذا الموقع الذي لا يعرف الأهالي شيئا عن وظائفه اللاحقة. كل ما يذكرونه يرتبط بعدد الغارات الإسرائيلية التي تعرض لها في كل مرة كان حزب الله “يحركش” فيها بإسرائيل.

 

 

 

بضعة إطارات وعارضة صغيرة تؤشر حالياً إلى أن الموقع لا يزال مشغولاً من عناصره. علماً أن هؤلاء بالكاد يظهرون في العلن وفقاً لتأكيدات شرطي بلدي. فوق الموقع مركز للجيش اللبناني يراقب حركته، وعلى مدخله مركز آخر يدقق في هويات الداخلين والخارجين منه. وعلى الرغم من الحديث عن قرب إخلائه، فإن موعداً لم يحدد بعد لذلك. علماً أنه موجود في بيئة سنية مؤيدة للشعب السوري في ثورته، وهذا ما يجعل من استمرار وجوده أمراً مستفزاً لأهالي البلدة، خصوصاً مع سقوط النظام السوري وتراجع نفوذ فلوله في لبنان.

 

 

 

موقع متقاعد في قلعة إدريس

 

لم نبلغ في جولتنا هذه على مواقع الجبهة الشعبية، قلعة إدريس التي تطل على منطقة “حلوى”، وهي آخر بلدة لبنانية تقع على مشارف جديدة يابوس السورية في منطقة راشيا العقارية. غير أن معلومات تتحدث عن تهالك عناصر الموقع  وتجهيزاته في فترة سابقة، وهذا ما يرجح سقوطه قبل سقوط النظام. فهل سيؤدي سقوط النظام السوري إلى سقوط السلاح الفلسطيني المتناغم معه في لبنان؟ أم تخضع هذه المعسكرات لمساومات يخشى أن تمعن بالتمسك بكل سلاح غير شرعي، وخصوصاً في منطقة شمال الليطاني؟