من الصّعب فهم الخريطة العسكرية للحرب المحتدمة حالياً في سوريا، نظراً إلى أنّها متبدّلة، وعادة ما تدور رحى المعارك فيها أو تبرم الهدن فوق مسرحها، وفقاً لتبدّلات تطرأ على السياسات الإقليمية والدولية المتقابلة في سوريا، حيث تدور داخل هذه الحيثية السياسية الاخيرة المعركة الأكثر ضراوة.
لكنّ ما بات مقروءاً حتى هذه اللحظة في شأن مشهد الهجوم على معقل «داعش» في الرقة، هو الآتي: أولاً- هناك سباق بين الروس والأميركيين للوصول الى الرقة، بحيث يتقدم الروس على الأرض بواسطة الجيش السوري داعمين زحفه نحوها من الجوّ، ويسير هذا الهجوم على المحور الشمالي للرقة. فيما يتقدم الأميركيون براً عبر الأكراد بشكل أساس، وهم بلغوا حدود منبج، ويسير هجومهم البرّي على المحور الغربي للرقة.
ثانياً- في السياسة والعسكر، تُعتبر بلدة منبج إحدى أهمّ الخطوط الحمر التركية داخل سوريا. ويُعتبر هجوم الكرد الآن على منبج أوّل تحدٍّ علني للخطوط الحمر التركية في سوريا، وهو يتمّ من عدوّ أنقرة الوجودي في سوريا، أي الاكراد، ومدعوم من أميركا زعيمة حلف «الناتو» الذي تُعتبر تركيا عضواً أساساً فيه.
وعلى امتداد الأزمة السورية المستمرة كانت أنقرة تُذكّر الأطلسي والإقليميين بمعادلة تحريم إسقاط جبل التركمان ومنبج، خصوصاً على ايدي الاكراد السوريين.
والواقع أنّ الهجوم الكردي على منبج المغطى أميركياً والمسنود بالترويج الإعلامي الغربي له بأنه هجوم ضدّ معقل «داعش» وليس ضدّ الخطوط الحمر التركية، يجعل انقرة في موقع مَن خسرت سبعين في المئة من هيبة نفوذها في الحرب السورية.
أما الثلاثون في المئة الباقية فستخسرها حتماً إذا نجح الاكراد في تنفيذ خطة وصل «عفرين» بـ«عين العرب» (كوباني)، لأنّ ذلك سيجعل جزءاً كبيراً من الشريط السوري المحاذي للحدود التركية في يد الاكراد.
تفيد المعلومات المستقاة من مصادر كردية، أنّ قصة الهجوم الكردي الحالي بغطاء اميركي لتحقيق هدفين استراتيجيّين، أي إسقاط الرقة ووصل مناطق الكرد بعضها ببعض، كانت بدأت قبل اكثر من عام. حينها أبرمت واشنطن صفقة مع اكراد سوريا، مفادها أنها مستعدة لمساعدتهم بالدفاع عن كوباني في وجه رغبة «داعش» بالسيطرة عليها، في مقابل أن يقبل الاكراد بإخراج «داعش» من الرقة حينما يحين الوقت.
ويبدو أنّ الوقت حان الآن من وجهة نظر إدارة الرئيس باراك أوباما لطرد «داعش» من الرقة، وقد وفى الاكراد بوعدهم ليكونوا هم المادة العسكرية البشرية الاساس لهذا الهجوم الاميركي.
تريد اميركا زرع علم نصرها السياسي في الرقة من خلال الاكراد، وهذا سيمنح حزب أوباما «صورة نصر عالمية» على معقل الارهاب العالمي يوظّفه داخل الولايات المتحدة لمصلحة سباق حزبه على الرئاسة الاميركية. وسيحقق أيضاً تقدّم الاكراد عبر منبج بدء مسار تمدّدهم غرب الفرات في اتجاه مدينة عفرين ووصلها مع كوباني. ومع اتمام هذا الوصل الجغرافي يسيطر الاكراد على مجمل المنطقة السورية المحاذية للحدود مع تركيا.
وللوهلة الاولى ستبدو خطوة انشاء منطقة انتشار متصل جغرافياً للأكراد في هذه المنطقة السورية المحاذية للحدود مع تركيا، وكأنها تحقيق لفكرة أنقرة القديمة – الجديدة بإنشاء منطقة آمنة داخل سوريا محاذية لحدودها وتحت سيطرتها، ولكن مع فارق أنّ هذه المنطقة الآيلة الى النشوء اليوم بفعل هجوم الكرد، ستكون تحت سيطرة واشنطن عبر الاكراد، وليس تحت سيطرة انقرة وحلفائها المعارضين المعتدلين بعدما أعلنت موسكو امس أنه لم يعد بينهم «اخيار»، نظراً لأنّ «هدنة حميميم» (فترة سماح لفرز الفصائل المسلحة السورية) قد انتهت.
ليس سهلاً في هذه اللحظة توقع كيف سيرد الاتراك على خطة ربط مناطق اكراد سوريا بعضها ببعض، وعلى المنطق الاميركي الذي يدرج هذا الامر، وكأنه ثمن تقدّمه واشنطن الى أكراد سوريا لقاء خدماتهم الاستثنائية في القضاء على «داعش» في الرقة.
وليس معروفاً أيضاً كيف ستقرأ انقرة حقيقة أنّ معبر المالكية، وهو منفذ المنطقة الكردية السورية الوحيد على العالم، والواقع تحت سيطرة البرزاني في كردستان العراق، قد فتح بأمر أميركي ليعوّض اكراد سوريا حقيقة أنّ جغرافيتهم التي تعبر عن حيثيتهم، غير قابلة للحياة لأنها معزولة، وليس لها اتصال بالبحر.
ثالثاً – في مقابل ذلك، عمل الروس نهايات الشهر الماضي بسرعة على تغيير خططهم العسكرية في سوريا، وذلك بغية التكيّف مع واقع ميداني مستجد افتتحه أوباما، وهو الحصول قبل احتدام اللحظات الاخيرة من المنافسة الانتخابية الرئاسية الاميركية، على صورة نصر اميركي في الرقة مركز أبو بكر البغدادي وريث بن لادن الاشرش، وعاصمة «داعش» التي تقطع رؤوس اميركيين امام شاشات التلفزة.
فموسكو لا ترغب في أن تسبقها واشنطن عبر الاكراد للسيطرة على الرقة، لأنّ الطرف الذي يزرع علم النصر فيها سينصّب ملك السلم السوري ومايسترو بدء التفاوض الدولي في شأنها.
معركة الرقة تُعتبر معركة الذهاب لبدء مسار الحلّ السياسي الجدي في سوريا، وتريد موسكو أن يكون لها الفضل في حسمها، أو أقله أن تكون شريكة مع الاميركيين في تحقيق هذا النصر.
تُشبه الرقة ضمن الظروف الدولية والاقليمية للأزمة السورية، معركة ستالينغراد في الحرب العالمية الثانية. نجاح الروس آنذاك في جعل ستالينغراد مقبرة الجيش الالماني حرّر المدينة وأيضاً جعل الجيش النازي غير قادر على الاستمرار في غزو اوروبا.
خرج الروس من ستالينغراد بمئات آلاف الشهداء وبنصر جعلهم اصحاب الفضل الاول في جعل الحلفاء ينتصرون على النازية. ولأنّ واشنطن أرادت حفظ هيبتها في عالم ما بعد انتهاء الحرب الكونية، ألقت قنبلتها النووية على هيروشيما.
يذكّر السباق الاميركي والروسي الراهن للوصول الى الرقة بأحداث نهايات الحرب العالمية الثانية نفسها، ولو على شكل مصغّر. فالحليفان الروسي والاميركي يخوضان حرباً واحدة في سوريا وضدّ عدوّ اساسي واحد فيها هو «داعش»، ولكنهما يتنافسان في الميدان لكسب ثمن النصر.
المتوقع انه لن يكون ممكناً سياسياً وليس عسكرياً، اسقاط الرقة من خلال الهجوم الاميركي عبر الأكراد وحده، ولا من خلال الهجوم الروسي وحده عبر الجيش السوري.
الطرفان يتقدمان الآن، في اتجاه المدينة من محورين ومنطقتين مختلفتين، وقد يصلان اليها في توقيت واحد، وحينها يرجح أن يطبّق الحليفان الكبيران الاميركي والروسي على «الرقة عاصمة البغدادي»، الحلّ نفسه الذي طُبّق بعد الحرب العالمية على «برلين عاصمة هتلر»، أي جعلها من دون إعلان «رقتان»: «الرقة الغربية» و«الرقة الشرقية». وبهذا الحلّ تتمّ استعارة لحظة تقسيم برلين لشطرين كحلٍّ واقعي آنذاك لتقسيم جائزة النصر في الحرب الكونية بين الاميركيين والسوفيات.