IMLebanon

سباق أخير قبل الفراغ الخطير

لو أخذ السياسيون استراحة قصيرة وغادروا مناكفاتهم، وتأمّلوا بالمشهد من حولنا، وتعمّقوا في ما يجرى فيه من قتل ودمار وتهجير وتطهير عرقي وذبح وقطع رؤوس، ثمّ تأمّلوا بلبنان، فلن يتأخروا لحظة في أن يقبّلوا أيديهم «وجّْ وقفا».

قد لا يخلو مجلس أو صالون سياسي أو حوار بين سياسيين ورسميين من هذا الكلام، ومبعثه تلك الصورة الماثلة حول لبنان؛ واقعٌ عربيٌ مريض، والعربُ كلهم صاروا «بيادقَ» صغيرة في لعبة أمم كبيرة، ودولهم مأزومة يتآكلها الحقد والكراهية في داخلها، والدولة التي لا تعاني من مشكلة داخلية، تجدها متورّطة في أزمة أكبر منها ومشكلات مع دولة أخرى، عربية أو إقليمية.

وها هو المثال الساطع في الأزمة السورية التي ينخرط فيها كلّ العرب تقريباً، وقد طحنت سوريا ومرشَّحة لأن تطحن غيرها، وإقفالها على الحلول السياسية يُبقيها مفتوحة على الأسوأ.

مع ذلك، العرب ماضون في ما هم عليه؛ يضربون مصالحهم بأيديهم، فيما المسَلَّم به أنّ أحداً من أطراف الصراع الدائر لا يستطيع أن يربح في الحرب، والتغيير لا يمكن أن يحصل بالقوة، وهذا ما خبره لبنان- واللبنانيون لم يقصّروا في حقّ أنفسهم ولا في حقّ بلدهم – من العام 1975 الى العام 1989، بحيث سقط أكثر من 150 الف قتيل عدا عن الجرحى والمفقودين ناهيك عن الدمار والخراب، وفي النهاية لا غالب ولا مغلوب. وفي النهاية جاؤوا كلهم راضين مرضيّين الى «الطائف».

هذه التجربة اللبنانية يمكن استنساخُها عربياً، وعبرها يمكن للعرب أن يسلكوا طريقَ «اللبننة»؛ كلهم صاروا في حاجة ماسة الى ما يسمّيها مسؤولٌ كبير «الديموقراطية التوافقية» على غرار ما هو معمول به في لبنان.

لبنان في قلب العاصفة العربية، ولكنّ المستويات السياسية والعسكرية تُجمع على القول «نكاد نُحسد على وضعنا، وصرنا نخاف أن يصيبنا أحد بالعين:

– أولاً، الغرب الأوروبي على مقصّلة الإرهاب يعيش القلق في كلّ مفاصله، تركيا من انقلابٍ عسكريٍّ فاشل الى انقلابٍ ثانٍ ينفّذه الرئيس رجيب طيب أردوغان وتتقلّب على صفيح ساخن ليس معلوماً متى تشتعل شراراته.

– ثانياً، لبنان يؤكّد تمسكه بالحياة، ولننظر الى الشق السياحي. فرغم كلّ شيء، إنّ ما يزيد عن 60 في المئة من القطاع السياحي «ماشي حالو»، والاحتفالاتُ والمهرجاناتُ تكاد توازي عدد القرى اللبنانية.

– ثالثاً، الخطر الكبير الذي يُهدّد المنطقة هو الفتنة السنّية – الشيعية، والعالم العربي غارقٌ فيها، ما عدا لبنان فهو الدولة الوحيدة في هذا الزمن العربي الصعب، التي تحضن حواراً سنّياً – شيعياً بين «تيار المستقبل» و»حزب الله»، ساهم الى حدٍّ كبير في تخفيف التوتر والاحتقان.

– رابعاً، كلّ العالم أعلن الحربَ على «داعش» والمجموهاتِ الإرهابية على اختلافها، ولكن هل سمع أحدٌ بأنّ «داعشياً» تتمّ محاكمته في أيّ من دول العالم، إن ألقوا القبض على إرهابي، سرعان ما تسمع أنه هرب او تمّ تهريبه، بينما الوضع في لبنان مختلف ويكاد يكون البلد الوحيد الذي يحاكمهم، والجيش والأجهزة الأمنية تعمل بكامل طاقتها وتلاحق الخلايا الإرهابية وتلقي القبض على الإرهابيين، والمحكمة العسكرية تعمل ليلاً نهاراً في محاكمتهم، والجميع يعلم أنّ مِن بين مَن يحاكمون رؤوساً كبيرة في التنظيمات الإرهابية.

– خامساً، هل استطاعت أيٌّ من دول العالم أن تضبط أمنها الداخلي وتحصّنه من الإرهاب التكفيري أكثر من لبنان وبجهودٍ كبيرة من الجيش اللبناني ومعه الأجهزة الأمنية الأخرى. علماً أنّ لبنان تعرّض لتجارب إرهابية خطيرة ومع ذلك تجاوزها الجيش وأحبط هدف الإرهابيين. واستعاد المبادرة وصار الأمن على الحدود تحت الرعاية القصوى وفي الداخل ممسوكاً ويبعث على الاطمئنان أكثر من أيّ وقت مضى، والكلام هنا لقائد الجيش العماد جان قهوجي.

ولعلّ أقسى وأصعب تجربة مرّ بها الجيش، تبدّت في الهجوم الإرهابي على مواقع الجيش في بلدة عرسال في آب 2014. حيث كشفت اعترافاتُ الإرهابيين الموقوفين لدى الجيش، ومن بينهم مَن تمّ توقيفه قبل أيام، أنّ عمليّة عرسال في ذلك الوقت كانت في منتهى الخطورة، هدفها لم يكن فقط ضرب الجيش فقط بل السّيطرة على المنطقة وإقامة إمارة إرهابية.

وكما يقول قائد الجيش فإنّ الهجوم الإرهابي لم يشارك فيه كما قيل 200 إرهابي أو 300 أو 400، بل كان العدد أكبر من ذلك بكثير. كانت «جحافل» من الإرهابيين هاجمت الجيش انطلاقاً من مخيمات النازحين السوريين والتلال ومن داخل عرسال، ومن كلّ الجهات وصمَد الجيش وأحبط هدفَ الإرهابيين.

وأكثر من ذلك إنّ جميع الإرهابيين الذين شاركوا في قتل الرائد الشهيد بيار بشعلاني والمعاون الشهيد ابراهيم زهرمان إما تمّت تصفيتهم وإما أصبحوا في قبضة الجيش.

في الخلاصة، وضعُنا الداخلي مطَمئِن ولا بدّ من تعزيزه أكثر، بالتوازي مع تحصين الجيش. فالضرورات الأمنية والوطنية باتت توجب ذلك، والأهم هو النأي بالجيش عن التجاذبات والتشنّجات الداخلية، خصوصاً مع اقتراب بعض الاستحقاقات المرتبطة بالمؤسسة العسكرية، ولاسيما التمديد لقائد الجيش.

وللرئيس نبيه برّي موقفٌ لافت للانتباه في هذا المجال حيث أبلغ «الجمهورية» قوله: «المهم بالنسبة لي هو ألّا يكون هناك فراغ في المؤسسة العسكرية، هذه المؤسسة تشكل صمّامَ الأمان للبلد، وممنوع المَسّ بها وتعريضها للاهتزاز. أكثر من ذلك ما أفهمه هو أنه ممنوع الفراغ في المؤسسة العسكرية حتى ولو كان لدقيقة».

ما تقدّم، يؤكّد أنّ لبنان في افضل حال قياساً على ما حوله، وكان وضعه ليكون أفضل بكثير لولا «المصيبة السياسية» التي يعاني منها على حدّ تعبير مسؤول كبير. فلولا هذه المصيبة لكنّا بألف خير. وإذ هناك مَن ينصَح بلبننة العالم العربي، فإنّ امتحان اللبنانيين هو النجاح في إعادة لبننة لبنان ليس من حيث الهويّة والانتماء، بل من حيث إعادة بناء الدولة كدولة جامعة.

يُحذّر المسؤول المذكور من أنّ لبنان دخل منطقة الخطر الأكبر وعلى مقربة من الدخول الى الفراغ الكبير، صرنا في سباق مع الوقت.

انتظار الانتخابات الأميركية لننتخب رئيساً في ضوئها، يعني أننا سنبقى في الانتظار من ستة الى ثمانية أشهر على الأقل، وإن انتظرنا التوافق السعودي – الإيراني فيبدو أنّ التوافق صار صعباً جداً، والرهان على ذلك كمَن يراهن على سراب، فهل ننتظر الى أن يسقط الهيكل علينا أم نبادر الى تجنيب بلدنا الذهاب الى جهنم وبئس المصير؟

إنّ السلبية القائمة في رأي المسؤول الكبير هي الوصفة الملائمة ليس فقط للذهاب الى مؤتمر تأسيسي أو ما شابه، بل الى الحرب وساعتئذ لا ينفع الندم. لذلك أمام لبنان فترة حاسمة من الآن ولغاية تشرين الثاني لصياغة حلٍّ شامل.

الرئيس نبيه برّي يستشعر هذا الخطر، ولأنّ انتخابَ رئيسٍ للجمهورية وحده ليس الحلّ، بل جزءٌ منه، وكذلك الأمر بالنسبة الى مجلس الشيوخ، فصارت الأولوية بالنسبة اليه هي الشغل الحثيث من الآن وحتى الخامس من أيلول المقبل لمحاولة إحداثِ خرقٍ كبير على مستوى القانون الانتخابي، فالقانون الحالي هو «أبو المشاكل»، فلنجعله «أبا الحلول»، وإن حلّت هذه العقدة تُحَل كلّ العقد الباقية مهما كانت مستعصية… وعندها تنطلق مسيرةُ الدولة من جديد.