الذكرى الأربعون هذا الأحد إلا إذا…
من الطيونة، صوب الشياح، صوب حارة حريك، صوب الغبيري، الى البيت الذي تُزنره حديقة تحتضن ضريح لقمان سليم… الى “حيث يحيا في الفردوس الأعلى بطل من لبنان”… فها هي الأيام تمرّ بسرعة، وآخر هذا الأسبوع يكون قد مضى على الغدر به أربعون يوماً. فماذا عن أربعينه؟ ماذا عن دموع أهل ذاك البيت، المثقف والمقاوم حقاً، التي بللت الأرض في أربعين يوماً فأزهرت وروداً ورياحين؟ وماذا عن لقاء “أربعين يوماً من الشوق” الأحد في 14 آذار؟
ما إن نعبر البوابة الحديدية الفاصلة بين الداخل، بين بيت آل سليم، وكل ما في الخارج حتى تتبدل كل الصورة. ورود بيضاء فواحة فوق الضريح. الورود تكاد لا تغيب من أربعين يوماً إلا في الأيام الستة الأولى للإغتيال، وأشجار الشوح والشربين والبلوط والسرو والسنديان وشجرة الميلاد التي زرعها ذات يوم محسن سليم تُظلل الضريح. لطالما أحب لقمان سليم الجلوس في الطبيعة والإصغاء الى أصوات العصافير الحرّة. هنا تغريد العصافير عال جداً.
رشا الأمير، شقيقة لقمان، تتشح بالسواد وتتسم بوجهٍ مريح، على الرغم من “التراجيديا” التي تحياها منذ أربعين يوماً. تفتح الشباك المطل على بيت مجاور وتقول: جارنا أخذوه البارحة الى المستشفى مصاباً بكورونا. تغلق الشباك وتتابع تحريك الركوة على النار. بالها يبدو مشغولاً كثيراً. تسكت ثم تقول: “خائفة جداً على والدتي من كورونا. هي استفاقت هذا الصباح تلهث وأنفها يسيل. حاولت أن أحميها كثيراً يوم قتل لقمان، تلقت اللقاح قبل عشرة أيام، لكنني خائفة عليها الآن”. شقيقها الآخر هادي مع والدتهما في الطبقة الثانية. وهو أيضاً مشغول البال. إتصل برشا وطلب منها استدعاء من يجري فحوصات PCR الى ثلاثتهم.
حنونة جداً هي رشا. ورقيقة جداً. وقوية جداً جداً. وحين تجتمع الصفتان في امرأة واحدة نراها مليئة بالكبرياء حتى في قلب وجعها. ومن دون أن نسألها نصغي إليها تتحدث عن الشقيق، الذي كان بالنسبة إليها كالتوأم، واشتاقت إليه كثيراً: “كان “حلّال” مشاكل. يمنح الحبّ والعطاء بلا بخل”.
الخطر فرس لقمان
تُكرر رشا كلامها عن التراجيديا التي تعيشها، لكنها لا تلبث أن ترسم ابتسامة وهي تتحدث عن وصية لقمان التي أودعها منذ العام 2005 مع والدتهما سلمى مرشاق سليم وتقول ببعض المزاح لكن الحزين: “يبدو أنه يثق بوالدتنا أكثر مني. كتب وصيته في العام 2005 وكان مهدداً منذ ذاك الوقت”. وتستطرد بالقول: شقيقنا هادي يعيش في فرنسا وهو الآن هنا من أجل أن يكون في هذا الوقت العصيب قربنا. هادي أخذ قراراً شجاعاً منذ الثمانينات وغادر لبنان وهو محام وزوجته أيضاً. أما لقمان فيا ليتني كنت قادرة على الإمساك به، لكنتُ “كربجته”، ووضعته في الطائرة هو أيضاً. كنتُ أردد أمامه: لماذا ركوب الخطر؟ لماذا الخطر فرسك يا لقمان؟ لكني بتّ أعرف الآن أكثر أنه “هيك”. لا يمكنني أن ألومه. هو مثل الشمس التي لا تستطيع إلا أن تلمع. كنتُ كلما أقول له: إنتبه يا شقيقي على نفسك. دير بالك. يجيبني “إنتبهي على شغلك”. ولم ينتبه حينها أن قتله “سيشبكنا” جميعاً بشغله. وسيُحمّلنا أكثر من طاقاتنا. أحياناً أفكر بتوضيب أمتعتي والمغادرة لأنه هو من خامة الأبطال أما نحن فلا.
نطلّ من شرفة الطبقة الأولى على الحديقة الخلفية التي كان يستقبل فيها لقمان الأصدقاء. فنرى شجرة الجاكاراندا التي تعطي أزهاراً ليلكية ونرى الياسمين والغاردينيا ونرى الكثير من العصافير التي بلا أقفاص. نراها حرّة حرّة. لم يكن يقبل لقمان وضع عصفور في قفص. ونرى اربعة كلاب طالما لاعبها واهتم بها. وهناك أربعة أخرى وزعت على المزارع.
تتحدث رشا في أمور كثيرة لكنها تعود وتطلب عدم النشر. فليس كل ما يعرف يقال وليس كل ما يقال يفترض أن يُنشر. وكل ما له علاقة بالتحقيق لا يهمها. فكل ما مرّ به لقمان جعل الحقيقة واضحة بلا حتى أي تحقيق. وماذا عن سرّ هاتف لقمان؟ ولماذا استمرار الإمتناع عن تسليمه؟ تعود رشا الى يوم اختفاء لقمان، واتصالاتها منذ الساعة السابعة والربع بكل من تعرف ومن لا تعرف، للحصول على خيط ما، وتقول: “إتصلتُ بشبيب الأمين فقال لي إنه أخذ قيلولة وشرب الشاي وغادر نحو الساعة الثامنة والربع”. ولماذا لم يجب عند السابعة والربع طالما غادر في الثامنة والربع؟
تجيب: كان على الأرجح نائماً. إتصلتُ بابن عمي وهو محام وبالدكتور جميل جبق وبشقيقة محمود قماطي، كون الأخيرين مقرّبين من “حزب الله”… واتصلت بالرقم 112 فرفض المخفر استقبال الشكوى قبل مرور 24 ساعة… ويا ليت من كانوا في المخفر نظروا في غوغل ليعرفوا ان اختفاء لقمان سليم لا ينتظر 24 ساعة… رحنا نبحث بأنفسنا مثل المجانين بحثاً عن خيوط… ولا أعرف صدقيني كيف مرّ الليل. وفي اليوم التالي قصدت مخفر حارة حريك لتقديم شكوى فسألوني: معكِ هويته؟ يا له من سؤال! وفي هذه الأثناء اتصلت بي صحافية لا أعرفها وسألتني هل سمعتِ آخر الأخبار؟ أجبتها لا. فأقفلت الخط. وحينها هرعت الى المنزل من المخفر الذي يبعد أقل من كيلومتر. وعرفتُ ان لقمان قد اغتيل. وقبل أن أعرف حتى ذلك أتاني شخص من المعلومات قال إن اسمه حسن وطلب هاتف لقمان. صدقيني لم أكن أعرف في تلك اللحظة أين هو؟ ومع من أصبح؟ فقلت له: ليس معي.
لهذا قتلوه
وتستطرد: نحن أولاد الدولة، نحن أولاد محسن سليم، ونطالب هذه الدولة قبل الإصرار على هاتف لقمان أن تبحث في الأدلة التي معها، بالرصاصات الست التي قتلت لقمان، ومراقبة الكاميرات على طول الطريق التي جرت في أرجائها عملية الخطف والقتل”. لا تريد رشا التدخل في التحقيق. هي لا تنتظر أصلاً أي نتائج. فها هو التحقيق في قضايا كثيرة انتهى الى لا شيء. وتقول: “أكاد أشعر بأني جثة متحركة. توأمي لقمان مات. هناك قواسم مشتركة كثيرة تجمعنا. غادر وتركنا نتخبط في أزمات. هو بطل أما نحن فلا. هو أمير بأحلامه. كان يتعرض لضرباتٍ متتالية ويسامح. هو كان في صغره يصعد على السطح ويعمّر بالإسمنت أشكال بيوت صغيرة. حاول كل عمره أن يبني. هو الآن حيّ الى الأبد أما هم قتلته ففي قلب الركام، وتحت الأرض، كما الخفافيش ولن يروا الضوء أبداً”.
هذا هو لقمان وهذا ما نعرفه عن لقمان ولكن، فلنسأل ما سأله الخصوم قبل الحلفاء: لماذا لم يُقتل لقمان قبل الآن؟ لماذا الآن وهو المهدد منذ العام 2005؟
إشترى هذه الدراجة قبل ثلاثة أشهر ولم يقُدها إلّا مرّتين
تتحدث رشا عن ثلاثة أشياء إجتمعت الآن بالذات: أولها، تراكم الحالة العدائية، فاتُخذ القرار بإعدام لقمان الذي كان عدواً للبعض لكنه عدو نبيلاً. وهذه الحال التراكمية قد تكون سبباً.
ثانياً، هناك من قرر الإستفادة من الوقت الضائع مع تغيّر الإدارة الأميركية وابتعاد الإدارة القديمة التي كان لقمان مقرباً منها.
ثالثاً، ظهر أخيراً أن لقمان من خلال تحليله في ملف النيترات وجريمة المرفأ كوّن أفكاراً واضحة حول مسارات مالية وهو تحدث منذ اللحظة الأولى، من خلال التحليل لا المعلومات، حول كيفية إستخدام النيترات في سوريا والعراق.
تضافرت أمور عدة وأدّت الى موت لقمان. والقاتل محترف. وماذا بعد؟
في آخر هذا الأسبوع، يوم الأحد في 14 آذار، سيلتقي أحباء وأصدقاء لقمان سليم في دارة سليم في حارة حريك تحت عنوان “أربعون يوماً من الشوق” وسيكون بحسب رشا: (إذا الله أراد) إجتماع محبة، تطلق خلاله مؤسسة لقمان سليم “وفي الحقيقة والعدالة”، التي ستعمل وتنكبّ على البحث عن كامل الحقيقة، وسيتلى الشعر وتؤدى الصلوات. رفعت طربيه سيكون بين الجموع وسيؤدي مقطعاً. وستنشد إبنة رفعت باللغة الإنكليزية. وستنشد إمرأة اخرى بالعربية. وسيقرأ شيخ القرآن وسيقرأ شاب من الإنجيل رسالة من القديس متى “هو ملح الأرض”. وسيسمع الحاضرون نصوصاً شعرية ترجمها ذات يوم اللغوي والأديب لقمان سليم. وستؤدي لينا أبيض تصميماً سينوغرافياً. هكذا ستكون أربعينية لقمان سليم نعود ونكرر إذا أراد الله.
البارحة مساء، إتصلنا برشا للإطمئنان الى نتائج PCR فتبين أن الوالدة سلمى، التي لُقحت قبل عشرة أيام، أصيبت بكورونا ومثلها شقيق لقمان سليم هادي. وهذا معناه أن الأربعينية قد تتأخر أسبوعاً وقد لا تتأخر. وفي الحالين يبقى لقمان يحيا هناك بين الشجر وزقزقات العصافير والحرية ويبقى آخرون في العتمة الدامسة.