Site icon IMLebanon

أسعد الله أوقاتكم… من “إذاعة لبنان”  

 

 

نوستالجيا ونفايات ومصعد معطّل وأمل “ببكرا”

 

“أسعد الله أوقاتكم، إليكم عناوين جريدة الظهيرة ونقرأها عليكم من إذاعة لبنان”. وينساب صوت المذيعة عذباً، عبر أثير الإستديو الرقم 7، عبر الموجتين 98,5 و98,1… هذا عبر المذياع. فماذا في الواقع؟ هل تعيش الإذاعة اللبنانية اليوم مرحلتها الخشبية؟

بين الماسي والخشبي فارق كبير وإذاعة لبنان شاهدة. مصعد مبنى الإذاعة متوقف والأدراج مليئة بالنفايات. تعتذر السيدة العاملة في مكتب مدير الإذاعة على «قلة النظافة». نعذرها ونحن العالمين بالبير وغطاه. مدير الإذاعة الحالي هو محمد غريب ورقمه بين المدراء، منذ تأسيس الإذاعة، 13. نتشاءم؟ هو استلم مهامه من سلفه محمد إبراهيم في أوائل 8 كانون الثاني من العام 2019، يعني هو أتى في الزمن الأكثر سوءاَ. فهل علينا أن نسأله عن تطوّر الإذاعة أم عن صمودها أم تعثرها؟

 

الكلام دائما عن أمجاد الإذاعة، عن الماضي والتاريخ وحليم الرومي وفيروز ونصري شمس الدين ووديع الصافي وصباح ونجاة الصغيرة… «فالإذاعة كانت وتبقى منبر الدولة واليوم جلّ اهتمامها المواطن اللبناني والصعاب التي يمرّ فيها. علينا الوقوف الى جانبه ونساعده من خلال برامج إجتماعية واقتصادية وتربوية. لا نهتم بالبرامج السياسية. إذاعتنا إذاعة كل اللبنانيين لا مذهبية ولا فئوية وحتى العاملون فيها من كل الطوائف والمذاهب. وإذا انتهت الإذاعة اللبنانية سينتهي آخر المرافق التي يتوحد حولها جميع اللبنانيين».

 

أول إذاعة عربية

 

جميل ما يتكلم عنه محمد غريب (الواضع على بروفايل رقمه الهاتفي صورته مع الرئيس نبيه بري). الإذاعة ما زالت تمشي لأن هناك أناساً يحبون أن تظل «ماشية». على الرغم من كل المعاناة الإذاعة مستمرة. إنها إذاعة وطنية يجب ان تستمرّ. إنها أول إذاعة عربية في عاصمة عربية. نشأت عام 1938. عدد موظفيها 108 حالياً أكثريتهم من المتعاقدين. في الملاك هناك ثلاثة على الأكثر. وهناك سبعة استديوهات، واحد باسم فيروز وثان بسم حليم الرومي وننوي تسمية استديو باسم نصري شمس الدين وصباح. البرمجة كيف تتمّ؟ الدولة أنشأتها لتكون منبرها. لا برامج سياسية لدينا. فهل نأتي باثنين من السياسيين ليتشاجروا عبر أثيرها؟ ماذا سنستفيد؟ نسمع المشاحنات عبر الإذاعات الخاصة. لا ننظر الى المنتج الى أي طائفة ينتمي بل هل لديه قدرة على الجلوس غير المذياع والإعداد.

 

هل هناك تعاقد مع منتجين جدد؟ إنتاج البرامج مستمر غير أن الإعتمادات قليلة. المنتج يأخذ إيجار الحلقة 200 ألف. طلبنا زيادة على الموازنة لنفي حق هؤلاء وبينهم سعيد ملكي وأحمد الزين وجان بو جدعون وعمر ميقاتي. إذا عرفتِ كم يتقاضى عمر ميقاتي لا تصدقين. ما السرّ في صمود هؤلاء؟ لأنهم يشعرون هنا أنهم في بيتهم. نحن نحبهم. هؤلاء تاريخنا. علينا أن نحافظ عليهم».

 

«أنا مدير الإذاعة معاشي ثلاثة ملايين و270 ألف. سيارتي تركتها اليوم في البيت. وآتي الى المكتب أحياناً بالفان. حين تتكلمين عن برامج الإذاعة والقدرات عليك أن تنطلقي من معاشه. المدراء الذين سبقوني مروا في ظروف مختلفة غير أن اليوم هو الأسوأ. حين تأتيني دعوة للسفر اتصل بهم وأقول لهم: ترسلون لي كلفة الإقامة أذهب. نعاني كثيراً غير ان الناس تسمعنا كثيراً. لدينا إرسال في كل المناطق ونأخذ كهرباء من محطات شركة تلفزيون لبنان لنمشي. كل الشكر له. في كل حال الإذاعة مثل العلم اللبناني».

 

عراقة

 

أطلقت على إذاعة لبنان، يوم أنشئت العام 1938، تسمية راديو الشرق، ومرّت بمحطات عديدة. غابت عن السمع فترات طويلة بسبب وضعها التقني وسلب المحطات منها، ما جعلها- لوهلة- تتراجع ولا تعود في متناول أذن المستمع. الإذاعة اللبنانية أحد أبرز مرافق الإستقلال الوطني. نجحت في ستينات وسبعينات القرن الماضي في إنتاج أغنيات رائعة وتخريج العديد من المطربين أمثال فيروز ونصري شمس الدين وسميرة توفيق… وشكّلت الإذاعة عبر تاريخها منبراً نهضوياً على صعيد البرمجة والإنتاج الموسيقي والفني. وبصمت أغنيات، سجلت في استديوهاتها، تاريخ الطرب. أول أغنية سُجلت في استديو رقم 6 كانت للفنانة وردة الجزائرية. ومحمد عبد الوهاب كان يشعر حين يدخل الى استديوهات الإذاعة وكأنه دخل الجنة.

 

إذاعة لبنان لها شقّ أجنبي. فرنسي. هناك أسماء مميزة، عظيمة، عملت في القسم الفرنسي في الإذاعة. وكل من عبر فيها فخور بذلك. سيمون أسمر كان واحداً ممن عملوا فيها. وكان يتمّ اختيار العاملين «على الطبلية». إيلي عرموني، الإسم الإذاعي المخضرم، ما زال يعمل حتى الآن في الإذاعة اللبنانية- الفرنسية أيضا.

 

محمد إبراهيم كان مديراً للإذاعة بين العامين 2009 و2019… فهل هو قلق عليها اليوم؟ وماذا يتذكر من أيام العزّ؟ يجيب «نجحت في إحداث التطور على صعيد التواصل الإجتماعي والإنخراط ضمن اتحاد الإذاعات العربية والإشتراك في كل النشاطات والمسابقات وتحقيق كثير من النجاحات». ويستطرد: «ثمة عراقة في الإذاعة اللبنانية غير متوافرة في سواها. مذيعاتنا يأتين من خلال إمتحان الخدمة المدنية. ثمة معايير ممنوع تجاوزها. ثمة نوستالجيا في الإذاعة اللبنانية التي خرّجت أهم مذيعين ومعدي برامج وموسيقيين كبار أمثال فيلمون وهبي وتوفيق الباشا وميشال طعمة ومارون كرم وسواهم. إستطاعت الإذاعة اللبنانية أن تفرض الأغنية اللبنانية أسوة بالأغنية المصرية والعراقية».

 

ليست هذه الأيام أيام الإذاعة اللبنانية، مثلها مثل كل مؤسسات الدولة، وليس السبب العامل البشري بل «التوك» هو مالي إقتصادي. بحسب مدير الإذاعة السابق محمد إبراهيم أضاف «الإعلام بحاجة الى سخاء ليعطي وإذا عاش «بالقطارة» يفشل. إذاعة BBC توقفت عن البث حين انخفضت الأموال المرصودة لها».

 

نجول في أرجاء إذاعة لبنان. هي «قفرة نفرة». وهناك استديو واحد يعمل من أصل سبعة. ثمة مذكرات إدارية على الجدران. نقرأ في واحدة: يطلب من المذيعين عدم المغادرة وترك العمل إلا بعد حضور الزميل الذي يليه الى جدول الدوام المعدّ تحت طائلة المسؤولية القانونية. التوقيع مدير إذاعة لبنان محمد غريب. نجول وندور فلا نجد «دومري» ولا لمبة مضاءة إلا في استديو الرقم 2، وفي داخله مهندس صوت إسمه جيلبير سمعان. هو يأتي من البترون ويتقاضى أقل من مليوني ليرة. نشكره لأنه أتى فليس سهلاً على إنسان أن يلبي واجب العمل في ظروف كهذه.

 

أسماء كثيرة تتكرر في كل مرة نقول فيها: إذاعة لبنانية. اسم نبيل غصن واحد منها. غصن عمل في الإذاعة طوال 43 عاماً وشغل منصب مدير برامجها مدة 23 عاماً. ويقول: «الإذاعة كانت الصرح الإعلامي الوحيد الذي يجمع كل الأدباء والفنانين في العالم العربي ومدرسة كل من نجحوا في الإذاعات والتلفزيونات العربية. ومرّ بها فنانون كبار أمثال فايزة أحمد ومحمد عبد الوهاب ونجاة الصغيرة…». يضيف: «كنا نعتمد مكافآت ودرجات. كان هناك مطربون درجة ممتازة أمثال فيروز ووديع الصافي، فنانون درجة أولى، وآخرون درجة عامة. كانت هناك ميزانية خاصة لإنتاج البرامج لكن الأمور تغيرت كثيراً. كانت لدينا إذاعة فرنسية مدعومة من السفارة الفرنسية، تنتج برامج فرنسية على الموجة القصيرة، وبرامج خاصة بالمغتربين. كنا مصنع برامج ليلاً ونهاراً».

 

منذ شهرين، نزل نبيل غصن الى الإذاعة اللبنانية وجال في أرجائها. لم يستطع أن يصعد الى الطبقات العليا بسبب انقطاع الكهرباء وتوقف خدمات المصعد. كل شيء تغيّر ويقول «كل من في الإذاعة اولادي» ويستطرد «أنا أول من كتب لتلفزيون لبنان في القناة 7. ذهبتُ أيضا الى هناك فرأيت الإستديوهات في حال يرثى لها بعدما كانت قمراً مضيئاً».

 

كتب غصن ومثّل أول مسلسل لبناني عرض على تلفزيون لبنان واسمه «الشهم» ويومها أقفلت بيروت لمتابعة اول مسلسل لبناني على شاشة صغيرة. ويوم دخل الإذاعة العام 1959، كان مقرها في السراي الحكومي. وكنت برعاية الفرسان الثلاثة: صبحي أو اللغد وعبد المجيد أبو لبن وغانم الدجاني. في تلك الأيام قدّم أديب حداد- أبو ملحم- برنامجي «صباح الخير» و»الدنيا صور» اللذين أخرجهما نبيل غصن. وقدم جورج ابراهيم الخوري «بيفرجها الله».

 

درّبت الإذاعة، بحسب غصن، مجموعة كبيرة من المميزين أمثال الياس رزق وعبد المجيد مجذوب وايلي ضاهر ومحمود سعيد… هناك تعلموا مخارج الحروف والتلوين واللغة الإذاعية. ونسقت الإذاعة مع إذاعات الكويت والسعودية وقطر التي نهضت على أكتاف الإذاعة اللبنانية».

 

من يتذكر نبيل غصن من زملائه مقدمي البرامج «أيام زمان»؟ يعدد «شكيب خوري وصبحي عيط وناهدة فضل الدجاني ورياض شرارة» ويستطرد «كان يقدم رياض العام 1962 برنامج مسابقات «صفر أو عشرين» ولمسنا عنده الروح الظريفة وطلبنا منه أن يشارك في البث المباشر. واشتغلت مع صونيا بيروتي في برنامج «فنجان قهوة» من كتابتها. أبو سليم انطلق من عندنا وبرامج نجيب حنكش عُرفت من عندنا. ورواد إذاعة لبنان هم الذين صنعوا كل الإذاعات الخاصة في لبنان. فها هي «صوت لبنان» بدأت مع ابراهيم الخوري وايلي صليبي واستلم الأخير فترة دائرتها التجارية. وها هو «صوت الوطن» انطلق مع محمد كريم…

 

نخرج من الإذاعة اللبنانية وكأننا خارجون من منزلنا. ثمة نوستالجيا في المكان غريب عجيب، على الرغم من كل العجائب والغرائب التي تصيبها وتصيبنا.

 

قصة “راديو”

 

أنشئت الإذاعة اللبنانية العام 1938، في عهد رئيس الجمهورية الراحل اميل اده، باسم راديو الشرق. وكانت تبث على موجة متوسطة ضعيفة طولها 288،50 متراً بقوة نصف كيلوات، ثم 2،50 كيلوات وعدلتها لاحقا الى 293،50 متراً وموجة ثانية قصيرة طولها 37،34 متراً. وكان مركزها في سراي بيروت.

 

أشرف رئيس قسم الدعاية والاستعلامات في المفوضية العليا الفرنسية على الاذاعة في شكل كامل. وأول مدير إذاعي للقسم العربي جرى تعيينه كان ألبير أديب. وأول مذيع باللغة العربية كان الشاعر سعيد عقل. لم تزد موازنة الاذاعة يومها عن ستين ألف ليرة لبنانية في السنة الواحدة. وكانت كل برامجها تبث على الهواء مباشرة من استديو صغير في مبنى السراي الحكومي. والى جانبه غرفة أصغر ضمت جهاز الارسال ومستودع الأسطوانات ومعدات الارسال واجراء التمارين والمهندس المراقب. وكانت الاذاعة تبث يومياً ما مجموعه 570 دقيقة منها 335 دقيقة للقسم العربي و235 دقيقة للأقسام الفرنسية والانكليزية والأميركية.

 

استمرت الإذاعة بالعمل، ضمن الخطوط الموضوعة لها، حتى نيسان عام 1946 حيث تسلمت الحكومة اللبنانية الإذاعة من الفرنسيين بموجب بروتوكولات رسمية. وتمّ حفل التسليم والتسلم في عهد رئيس الجمهورية الراحل الشيخ بشارة الخوري. وعُين محمد صبرا مديراً للدعاية والنشر والاذاعة وألحق الراديو بوزارة الأنباء والسياحة. واستبدل الاسم من راديو الشرق الى محطة الإذاعة اللبنانية. وبعد اثني عشر عاماً، سنة 1958 بالتحديد، وضع الحجر الأساس لدار الاذاعة اللبنانية في منطقة الصنائع. ونفذت المشروع شركة سيمنس الألمانية. ودشن المبنى رسمياً في عهد الرئيس الراحل كميل نمر شمعون. وفي بدايات العام 1962 انتقلت الاذاعة من السراي الى مبناها الجديد الذي يضم سبعة استديوهات ومكتبة تحفظ التسجيلات الاذاعية ومحطة للارسال في عمشيت بقوة مئة كيلوات موزعة على جهازي ارسال، كل واحد بقوة مئة كيلوات للموجتين المتوسطة والقصيرة.

 

مرّت الاذاعة، خلال الحرب اللبنانية، في ظروف صعبة جداً. وتضررت محطات ارسالها وانقطع الاتصال بينها وبين المركز الرئيسي في بيروت. واستمر الوضع هكذا الى أوائل تسعينات القرن الآفل، حيث استعادت محطات الارسال وبدأت تعمل على وضع خطة تطوير.