إذا وافقت «حماس» على الهدنة بشروط نتنياهو، فهذا يعني قبولها بالأجندة التي رسمها، والتي يريد بها تنفيذ مخطط التهجير عبر رفح. أمّا إذا رفضت الهدنة، فإن نتنياهو نفسه أعلن بوضوح أنه سيردّ بإطلاق العمليات في رفح، المدينة الفلسطينية التي لم تكن قد وصلت إليها عمليات التدمير، بعد مدن الشمال والوسط وخان يونس في الجنوب. وهذا يعني أيضاً بلوغ النتيجة إيّاها: التهجير إلى سيناء.
في رفح الواقعة على الحدود بين غزة ومصر، واقع ديموغرافي مثير للقلق، بل الرعب. فسكانها في الأساس يقاربون الربع مليون. لكنها اليوم تحتضن، وفقاً لتقديرات الأمم المتحدة، 1.3 مليون نسمة من أصل 2.3 هم كامل سكان القطاع.
فمنذ 7 تشرين الأول، تدفق الغزيّون إليها من مدن الشمال والوسط إلى الجنوب. وعندما اعتمد الإسرائيليون نهج التدمير في خان يونس، لم يبق أمام المدنيين سوى رفح. أولاً لأنها بقيت الأكثر أماناً والأقرب إلى المساعدات الغذائية والطبية، وثانياً لأنها بوابة القطاع على سيناء، الملجأ المحتمل للأهالي إذا دهمتهم عمليات القتل والتهجير.
أي عملية إسرائيلية عسكرية في غزة ستكون اليوم بمثابة مجزرة. وهذا ما حذّر منه وزير خارجية الولايات المتحدة أنطوني بلينكن في محادثاته مع نتنياهو. لكن ردّه كان: «حماس» تتحصّن في رفح، وإذا لم نحسم المعركة بالقضاء عليها، فالمجزرة التالية تنتظرنا، كما انتظرنا مجزرة 7 تشرين الأول. ولا خيار لنا إلا القتال في البقعة الأخيرة، رفح، وسنحقق أهدافنا خلال أشهر معدودة.
الرد الأميركي الصادر عن الناطق باسم وزارة الخارجية لم يكن شديد اللهجة في منع إسرائيل من تنفيذ عملية تدمير في رفح، واكتفى بالتحذير من سقوط أعداد كبيرة من المدنيين خلالها. وهذا المستوى الضعيف من الضغط يتيح لإسرائيل هامش التحضير لعملية عسكرية، ولا بأس من الإيحاء بتقليص حجم الخسائر البشرية قدر الإمكان، من باب رفع العتب.
سيحاول نتنياهو أن يدفع بسكان غزة واللاجئين إليها، وبعضهم في العراء، للعودة إلى الشمال والوسط. لكن منازلهم هناك مدمّرة بمعظمها أو غير صالحة السكن. وعندما يبدأ الإسرائيليون عملياتهم المروعة في رفح، سيجد السكان أنفسهم في مأزق: القتل من أمامكم، وسيناء من ورائكم، فأين المفر؟
الأرجح أنّ هذا هو الوضع الذي خطّط نتنياهو للوصول إليه منذ اليوم الأول للحرب في غزة. ولو وافق الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي على فكرة تهجير نحو مليون غزّي إلى سيناء، والتي نقلها إليه بلينكن، لانتهت الحرب. لكن الضغط على القاهرة مستمر بوسائل مختلفة. وثمّة عام كامل من المراوغة أمام نتنياهو، أي حتى نهاية عهد جو بايدن، لتنفيذ هذه الخطة أو على الأقل تحضير الأرضية المناسبة لتنفيذها.
الجديد في هذا السيناريو هو الكلام المُستجد عن رغبة إسرائيل في إقفال معبر رفح الذي يفصل بين القطاع وسيناء، والاستعاضة عنه بمعبر كرم أبو سالم الذي يقع على طرف الحدود الإسرائيلية مع غزة ومصر في آن واحد. فإسرائيل قادرة على التحكّم مباشرة بهذا المعبر، فيما تنتفي تماماً سلطة «حماس» وتكاد تكون سلطة مصر معدومة.
مَكمن الخطر في اعتماد هذا المعبر هو أن إسرائيل تستطيع من خلاله فتح الباب على مصراعيه للأهالي، كي يخرجوا من غزة. وفي أي حال، في لحظة معينة، سيجد المصريون أنفسهم أمام اختبار مرير: ماذا يفعل الغزّيون إذا أصبحوا في رفح أمام خيارين: الموت بالقذائف والصواريخ الإسرائيلية أو الهرب بمئات الآلاف إلى سيناء؟ سيكون سهلاً في هذه الحال تنفيذ الفكرة الواردة في صفقة القرن: تحويل جزء من سيناء أرضاً فلسطينية يجري ضَمّها إلى غزة، وفي عبارة أوضح، ستكون بديلة منها.
لن يتراجع نتنياهو عن تنفيذ هذا المخطط، سواء وافقت «حماس» على الهدنة التي يقترحها أو رفضتها. والمثير هو الصمت الإقليمي والدولي السائد. والأمر لا يتعلق بالولايات المتحدة فحسب، بل أيضاً بروسيا والصين والأوروبيين والأتراك وغالبية العرب. فلا أحد مُستعد لإحراق أصابعه من أجل غزة والفلسطينيين على ما يبدو. فالجميع يلتزم الصمت.
وحتى اليوم، وعلى رغم الإرباك الذي يصيب نتنياهو ورفاقه في الحكومة الحالية، فإنّ أحداً لا يمنعه من تنفيذ ما يرغب بتحقيقه في غزة، وربما في الضفة الغربية لاحقاً، في سياق المشروع الإسرائيلي المتكامل والطويل المدى، الهادف إلى تصفية القضية الفلسطينية نهائياً.