قبل 6 أشهر، كانت حركة “حماس” أقوى، ولم تكن غزة لا مدمرة ولا مهجرة ولا فيها 100 ألف قتيل وجريح، وكانت تتمتع بمقدار من الإدارة الذاتية. اليوم، يجدر التساؤل: بعد 6 أشهر أخرى، أين ستكون “حماس”، وماذا سيبقى من غزة، بشراً وحجراً؟ وهل ستكون قد تقدمت خطوة للتحرُّر من الاحتلال الاسرائيلي؟ وإذا كان الجواب “لا”، هل ما زال هناك مجال لإنقاذ ما أمكَن؟
حتى الآن، كل شيء يسير في غزة وفق ما يريد بنيامين نتنياهو وحلفاؤه في حكومة اليمين واليمين المتطرف. فقد نجحوا في إطالة أمد المعارك هناك حتى احتدمت المنافسة الرئاسية في واشنطن، فلم يعد يجرؤ أيّ من الحزبين، لا الجمهوري ولا الديموقراطي على رفض مطالب إسرائيل، بل أخذ كل منهما يزايد على الآخر لكسب ود أصوات اللوبي الداعم لإسرائيل.
وقبل أيام قليلة من العملية المقررة في رفح، تلقّى نتنياهو هدية ثمينة من الأميركيين، تحمل صفة العاجلة. وتبلغ قيمة هذه الهدية 26.4 مليار دولار، منها 15 ملياراً مساعدات عسكرية، ثلثها لدعم نظام القبة الحديد الذي تعرَّض أخيراً لاختبار جدي، عندما وجّه الإيرانيون رشقات من الصواريخ والمسيرات إلى الداخل الإسرائيلي، لم يصل منها فعلاً إلا القليل.
استغلّ نتنياهو هجوم إيران، المشفوع بتهديدات باقتلاع إسرائيل ورميها في البحر، لينعش مشاعر اضطهاد اليهود لدى الرأي العام الغربي، ويطلق المرحلة الثانية والحاسمة من حرب غزة.
سبق أن فعل الأمر إيّاه قبل 6 أشهر، وأنعش مشاعر الاضطهاد أيضاً لإطلاق المرحلة الأولى من حرب غزة، يوم نفذت “حماس” عملية “طوفان الأقصى”، فخطفت نحو 250 إسرائيلياً وقتلت نحو 1400 آخرين في يوم واحد. (تجدر الإشارة إلى أن المعلومات عن عدد القتلى وزّعها الإسرائيليون أنفسهم، وتعذّر تأكيدها من مصادر محايدة).
وحينذاك، وبسبب ضخامة عدد الضحايا والمخطوفين، حصل نتنياهو على دعم مفتوح من الولايات المتحدة وحلفائها، وحظي بأوسع تغطية عسكرية وسياسية ومالية لتنفيذ أشرس العمليات في غزة. وهذا الأمر يتكرر اليوم، بعد الردّ الصاروخي الإيراني.
إتّبع نتنياهو خطة ذكية مع واشنطن. فقد دعاها مجدداً إلى مشاركة إسرائيل في شن هجوم قاسٍ على إيران يتكفل بتدمير منشآتها النووية ويضع حداً لطموحات نظامها الإقليمية. ويعرف نتنياهو أن إدارة الرئيس بايدن سترفض الفكرة مجدداً، لأنّ لها عواقب يصعب تقديرها. كما يدرك أن بايدن يتبنى أساساً خيار التواصل لا التصادم مع إيران.
لكن ما أراده نتنياهو هو استخدام الرد الصاروخي الإيراني ذريعة لدفع واشنطن إلى تليين موقفها في الملف الأشد أهمية وإلحاحاً، أي غزة. فقام بتخيير الأميركيين: نتفهّم هواجسكم برفض مهاجمة إيران، ولكننا نريد أن تتفهموا هواجسنا بالمسارعة إلى تنفيذ العملية في رفح، وسنراعي مطالبكم المتعلقة بالحفاظ قدر الإمكان على سلامة المدنيين.
هدف نتنياهو بات معروفاً: استكمال تصفية القضية الفلسطينية. ويتم ذلك بالقضاء على أي فرصة تُتاح للفلسطينيين للمطالبة بدولة أو شبه دولة أو حتى إدارة ذاتية، من خلال حرمانهم من أي بقعة جغرافية يمكنهم استخدامها لهذه الغاية، أي إنهاء مفاعيل اتفاق أوسلو للإدارة الذاتية في غزة والضفة الغربية اللتين يُراد تهجير قسم كبير من سكانهما الفلسطينيين إلى مصر والأردن.
الخبراء يعتقدون أن الفريق اليميني المُمسك بالحكم في إسرائيل اليوم لن يفوّت الفرصة المتاحة لتحقيق هذه الأهداف التي يعتبرها تأسيسية وتاريخية. وذريعة الاضطهاد القديمة التي استخدمها الإسرائيليون لتأسيس دولتهم في العام 1948، أي ذريعة المعاداة للسامية والمحرقة النازية خلال الحرب العالمية الثانية، يستخدمونها اليوم لاستكمال المشروع.
ويأتي توقيت إقرار المساعدة العسكرية الضخمة لإسرائيل متزامناً مع التحضير للعملية المقررة في رفح. وفي الترجمة، يمكن القول إن نتنياهو نجح في توفير تمويل أميركي فضفاض لعمليته، وقد تُضاف إليه مشاركات عسكرية مباشرة لواشنطن والحلفاء إذا احتاج الأمر.
واللافت، في الموازاة، هو الصمت العربي والإقليمي والدولي الشامل إزاء العملية، ويمكن الحديث عن تقاطع دولي وإقليمي ضمني لإمرار العملية الإسرائيلية بلا ضجيج.
فإذا كان مفهوماً تشجيع القوى الدولية الداعمة لإسرائيل على تنفيذ العملية، فإنّ الصمت العربي يحمل دلالات عميقة. فبعض العرب يخشون التفريط بمصالحهم إذا دافعوا عن غزة، فيما لا يرى آخرون ضرراً في القضاء على “حماس”، باعتبارها الجناح الفلسطيني لتنظيم “الإخوان المسلمين”. وحول هذا الهدف، يلتقي الإسرائيليون مع الأميركيين وغالبية العرب.
وهكذا، تمكّن الإسرائيليون من إنضاج الظروف لتنفيذ عمليتهم في رفح بلا إزعاجات دولية وعربية ذات شأن. وأساساً، هم مرتاحون على وضعهم منذ اللحظة الأولى للحرب على غزة، على رغم ما فيها من فظائع.