نقطة التحول الأساسية التي طاولت أوضاع البلاد، تتمثل في عملية اغتيال شهيد الوطن الرئيس رفيق الحريري. بعد هذا المفصل التاريخي بدأت الأحوال في التدهور نتيجة لإطباق أكلة الجبنة الأساسيين على مقاليد الحكم بصورة، تدريجية ممنهجة، وها نحن اليوم بعد صدور الحكم نغوص في وضعية قضائية ثابتة ومحددة تلقي عملية الإغتيال الآثمة على شخص محدد بهويته الشخصية وانتماءاته الحزبية والعقائدية.
وبعد هذه الجريمة النكراء التي هزّت العالم بأسره إلى درجة تولى فيها التحقيق والحكم بها بما صدر يوم الثلاثاء، جاءتنا مصيبة التفجير «النووي» التي طاولت مدينة بيروت وأهلها ومساكن الناس وأرزاقهم وكدّست مصائبنا الجرمية المستحدثة واحدة إثر الأخرى بما أصاب هذا الشعب بكارثة إضافية كادت أن تمدّ أذاها المدمِّر والمميت إلى ما يتجاوز العاصمة ويطاول أماكن شاسعة من لبنان بأسره.
وننقل القلم إلى ذلك الحكم الذي صدر يوم الثلاثاء:
قبل يوم واحد من عملية الإغتيال الآثمة، قُدِّرَ لي أن كنت مدعواً إلى لقاء ضمّني إلى الرئيس الشهيد، وقد لمست لديه آنذاك جملة من التحوّلات في رؤيته وتوجهاته السياسية، بعد أن أفلحت ضغوط متعددة الأوجه والتوجهات في الداخل اللبناني وفي جواره، في إحراج الرئيس الشهيد ودفعه إلى موقف متشدّد، وسعي إلى تخفيف وقع الإنشداد إلى النهج الذي سبق أن ساد لفترة من الزمن، كانت للرئيس الحريري فيها حرية التصرف المالي والإقتصادي والعمراني في الإطار اللبناني، وكان التصرف السياسي محصورا بسياسات الوصاية السورية وممثلي انتماءاتها بشقها السوري وتوجهاتها الكبرى نحو النظام الإيراني. ولئن كان وجود الرئيس الشهيد يطغى إلى حد كبير على ضجيج التوجهات نحو إيران ومنطلقاتها المذهبية والفارسية المتشحة برداء القدس والقضية الفلسطينية، فإن تلك الإزالة الجرمية للرئيس الشهيد من المسرح السياسي اللبناني، قد مكّنت من تلك الخطوات المدروسة والمشفوعة بجملة من الإغتيالات ومحاولات الإغتيال الوازنة لعدد من عمالقة السياسة اللبنانية، قد ساهمت في تعبيد الطرق التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه من تحكّم كامل بالمفاتيح والأحوال السياسية والأمنية اللبنانية، وسط طغيان كامل على مواقع السلطة والحكم، الأمر الذي ألهب الأحوال العامة في لبنان، وخارجه في الوطن العربي، والمحيط والدولي، ودفع إلى كلِّ هذه المآزق والإنهيارات التي تكاد أن تقضي على الوجود اللبناني بأسره بكل توجهاته السياسية والإجتماعية التي أطبقت عليها جهود عربية، ويسرت لها سبيل التخلص من عوامل الضغط والفرض، وقُدِّرَ للكلمة اللبنانية والموقف اللبناني أن يصبحا في غياهب الأخطار والأضرار المتلاحقة إلى درجة دفعت بالرئيس الشهيد إلى محاولة التحكم ببوصلة النهج السياسي المعتمد، إلاّ أن أهل «الحزم والعزم» كانوا له بالمرصاد، فكانت تلك الجريمة النكراء التي أودت بحياته وتوجهاته الإنمائية والإصلاحية وتطلعاته السياسية، وكان الوصول بنا إلى هذه الحدود المأساوية نعاني في مسيرتها ونهجها ونتائجها العملانية، إلى الحدود التي وصلنا إليها ونتابع من خلالها عملية الإنهيار والإنحدار الكاملين.
بالإطلاع الموضوعي والمتأني على الحكم الصادر عن المحكمة الدولية الناظرة بقضية اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وبالرغم من التحفظات التي ألقاها الكثيرون على الحكم، إلاّ أننا نستخلص من الصفحات الطوال التي وردت في وقائعه وحيثياته أن امتناعه عن إدانة ثلاثة من المتهمين هو لعدم كفاية الدليل، وادانته للمتهم الرابع سليم عياش، المصنف في الحكم نفسه، كقيادي في حزب الله على أن تلزمه لاحقا بعقوبات تجيزها صلاحياتها كمحكمة دولية، حتى إذا ما اطلعنا على تفاصيل الصفحات الطوال المذكورة، إتضح لنا أنها لم تهمل الخلفية السياسية للجريمة النكراء، بل صنفتها بعلاقتها المباشرة بكل من النظام السوري وحزب الله، وبالتالي فإن الحكم على القيادي سليم عياش بجرم ارتكاب الجريمة النكراء وسواء كان هذا الحكم يتناول متهماً أو أكثر، فهو بالنتيجة يلقي بالمسؤولية الجنائية-الإرهابية، من خلال المحكوم عليه عياش، في حضن حزب الله وفي إطار مسؤوليته الحزبية والمؤسساتية، إضافة إلى إلقائها أيضا على النظام السوري، وبالتالي النتيجة واحدة، والمحكوم عياش ينتمي إلى الحزب الذي تناولته الصفحات الطوال بكثير من الإتهامات والمسؤوليات القانونية والإرهابية.
فإلى الذين صدموا بتلطيف العقوبات، عليهم أن يأخذوا بعين الإعتبار تحديد المسؤوليات ضمن الإطار الذي تتيحه صلاحيات المحاكم الدولية. وبالتالي، حزب الله مدعو إلى المساهمة في تلطيف الأجواء العامة من خلال تسليم المحكوم عليه عياش إلى السلطة المختصة، وبذلك يتماشى ولو جزئيا مع إراداة شعبية عامة تدعو إلى تصفية الأوضاع من كل خلل ما زال ينهش بجسم البلاد نتيجة لجريمة الإغتيال النكراء للشهيد.
أضيف إلى مأساة عمرها خمسة عشر سنة، مأساة جديدة حلّت في ربوعنا في هذه الأيام القاسية، تلك الجريمة المأساة التي طاولت عاصمة الوطن وشريحة واسعة من أبنائه بالموت والدمار والتشريد.
وبعد: قد حوّل استشهاد الرئيس الحريري مسيرة الأحداث في لبنان، إنطلاقا من أولى نتائجها المتمثلة بخروج الوجود السوري من لبنان، ولكن، كانت لهذه الواقعة التاريخية نتيجة غاية في السلبية، تجلت في وضعية الأحوال القائمة حيث توجهت مسيرة الحكم لدينا منذ ذلك الحين، إلى المنحى التدهوري والمأساوي القائم والمتفاقم.
واليوم نحن أمام مأساة جديدة، شديدة الوطء، واسعة المدى والأثر تتمثل في هذه المصيبة التي طاولت مدينة بيروت وأهلها ومن خلالها طاولت اللبنانيين جميعا، الناجين منهم والمصابين، فإن أقلّ ما توقّعه اللبنانيون نتيجة لآثار هذه المأساة، كان يتمثل في هزة كبرى لدى أهل الحكم جميعا، تعود بهم وبالبلاد إلى منهج صائب وعاقل، ذلك أنهم مسؤولون بشكل لا يتجزّأ، فهول المأساة ما زالت آثاره المعنوية والمادية والإنسانية والوطنية تتدحرج وتتكثف، وإن يوم الحساب الوطني الشامل، آتٍ لا ريب فيه.