من مراحل حياته
حكاية وفاء جمعت ما بين رفيق الحريري وصيدا، المدينة التي أبصر فيها النور لم تُفارقه يوماً، استمرّت فصولها نحو ربع قرن من الزمن وحتّى يوم استشهاده. واستمرت لـ 15 سنة بعد غيابه جسداً وبقائه نهجاً، ولا تزال مستمرّة مع نجل الرئيس الشهيد سعد الحريري وشقيقة رفيق الحريري بهيّة.
الولادة كانت في الأول من تشرين الثاني العام 1944. في بيت صغير يتوسّط بستان ليمون وأكي دنيا، في المكان الذي يقوم فيه مبنى سنترال صيدا حالياً في حيّ الست نفيسة، في ذلك البيت تربّى ونشأ رفيق الحريري في كنف عائلة مؤلّفة من الأب المرحوم بهاء الدين الحريري والأمّ المرحومة هند حجازي والشقيقين “شفيق وبهية”، وتفتّحت عيناه ووعيه على ما تعلّمه من قيم هذا البيت، وما تشرّبه من حسن الخُلق وصِفات الكرم وحبّ الناس، بالرغم من ضيق الحال آنذاك.
الفصل الأول
ومن ذلك البيت المتواضع، انطلق رفيق الحريري في لبنان وخارجه، فبدأ الفصل الأول من حكايته في العام 1979، في واحدة من أصعب المراحل التي مرّت بها صيدا في عصرها الحديث، حين كان عليها أن تواجه غياب الدولة واجتياحين اسرائيليين الأول العام 1978 والثاني العام 1982، ثمّ الاحتلال الإسرائيلي للمدينة حتى العام 1985، وبعده أحداث شرق صيدا التي افتعلها الإحتلال بعد انسحابه، مع كلّ النتائج الأليمة والآثار المُدمّرة الناجمة عن تلك الأحداث. لم يكن بوسع المجلس البلدي المُعيّن آنذاك، وفي ظلّ النقص الكبير في أجهزته البشرية والتقنية والوضع الناجم عن فراغ بلدي عمره أكثر من خمس سنوات، أن يواجه مُنفرداً أحداثاً جِساماً بحجم الإجتياح الإسرائيلي عام 1982 وما نجم عنه. فجاءت المبادرة سريعاً من رفيق الحريري بمدّ يد المساعدة والدعم للبلدية في مواجهة آثار الإجتياح والعدوان الإسرائيلي، لتتحول صيدا من مدينة منكوبة إلى ورشة عمل قائمة ومستمرّة حتى نهاية التسعينات. وتجلّى هذا الدعم في أعمال الإغاثة ورفع الأنقاض والترميم وإعادة البناء والمشاريع التي قامت بها “هيئة مشاريع بلدية صيدا” المُشكّلة آنذاك من قبل مؤسسة الحريري والبلدية. وكانت هذه الهيئة عاملاً مهماً في دعم صمود المدينة عبر نفض آثار الدمار والأضرار عنها، وإعادة البناء وتأمين الدعم المادي والمعنوي والبشري لإدارات الدولة وتعويض غيابها الطويل، وتهيئة المدينة لدخول مرحلة جديدة من النموّ والإزدهار. وتكامل هذا الدور الإغاثي والإنمائي مع الموقف الواحد والمُشرّف لفاعليات المدينة وهيئاتها الأهلية في مواجهة الإحتلال، وفي دعم المقاومة في انطلاقتها الأولى من صيدا، لتثمر جميعاً التحرير الأول.
الفصل الثاني
أمّا الفصل الثاني من الحكاية لثلاثة عشرعاماً أخرى (1992 – 2005) فكانت فترة الإستلحاق الرسمي لما فات المدينة من إنماء هو حقّ لها وما فاتها طيلة عقود من مشاريع إنمائية واقتصادية واجتماعية، فأكمل رفيق الحريري، رئيساً للحكومة – ما بدأه سابقاً على رأس مؤسسة الحريري، وبقيت المؤسسة سنداً للدولة وداعماً لمؤسّساتها كما كانت في غيابها، وشهدت المدينة في عهده نهضة إنمائية غير مسبوقة طالت كافة المرافق والقطاعات.. وبعد الإنتصار الكبير الذي تحقّق بتحرير الجنوب العام 2000، تواصلت المسيرة الإنمائية في صيدا كما في الجنوب وكلّ لبنان، وكان الصيداويون في تلك الفترة يتطلّعون بكثير من الأمل الذي منحه رفيق الحريري لهم ولجميع اللبنانيين بأن يحمل المستقبل الآتي لمدينتهم ووطنهم المزيد من الإنماء والإزدهار والتطوّر، لكنّ جريمة الاغتيال غيّبته جسداً ليبقى نهجاً يتجدّد بالأمل.
الفصل الثالث والإغتيال
فمنذ فقدته في ظهيرة الرابع عشر من شباط، ولخمسة عشر عاماً تلت الإغتيال (2005 -2020)، ومع كل عام كان يمرّ منها، كان رفيق الحريري أكثر حضوراً في صيدا ومعها بنهجه ومشروعه وثوابته. يرافقها في كلّ المحطّات الصعبة التي مرّت ومرّ بها لبنان كلّه. وكم هي كثيرة تلك المحطّات طيلة الأعوام الـ 15، منذ 14 شباط 2005. في كلّ محطة منها وبقدر ما كانت تشعر بحجم خسارتها لإبنها ورفيقها رجل الإعتدال ورجل الدولة والمؤسسات، بقدر ما كانت تجد في نهج رفيق الحريري وخطّه مُمثلين بتيّاره ومؤسّساته، وبقيادة نجل الرئيس الشهيد الرئيس سعد الحريري ومع شقيقة الشهيد النائبة بهية الحريري، ما يدفع عنها كل خطر يُحدق بها ويُبلسم جراحها، ويُعبّر عن وجعها ويُلبّي حاجاتها ويُحرّك عجلة إنمائها. بدءاً من جريمة 14 شباط وتداعياتها على الوطن كلّه، مروراً بعدوان تموز الإسرائيلي في العام 2006 الى أحداث نهر البارد في العام 2007، الى أحداث السابع والتاسع من ايار 2008. الى أحداث عبرا في العام 2013 وقبلها وبعدها، الى أحداث عدّة شهدها مخيّم عين الحلوة، وصولاً الى الأزمة الإقتصادية الخانقة وجائحة “كورونا”… فترات عصيبة مرّت على صيدا وفي كلّ منها كانت تُثبت أنهّا عصيّة على الفتنة قوية على كلّ محاولات أخذها الى مساحات التوتر والتفجير، مُحصّنة ضدّ محاولات النيل من عيشها الواحد.. تمسّكت صيدا في كلّ تلك المحطّات وغيرها ولا تزال، بنهج رفيق الحريري في الإعتدال والوحدة الوطنية، وبمرجعية الدولة ومؤسساتها الأمنية والعسكرية، رافضة أيّ مشروع او سلاح خارج الدولة.
الخاتمة والعدالة
بقيت صيدا طوال تلك السنوات أمينة على مسيرة رفيق الحريري، سائرة على خطاه في إنمائها، مُصرّة على أخذ حقّها من دولتها، متابعة لمشاريعها وخطّة نهوضها. بقيت صيدا مدينة للإعتدال والإنفتاح، عاصمة للجنوب وللقضية الفلسطينية، مُتمسّكة بهوية لبنان العربية ودوره في المنطقة والعالم، ثابتة على القيم والثوابت الإنسانية والوطنية التي دافع عنها واستشهد من أجلها رفيق الحريري، وفي مقدّمها سيادة لبنان واستقراره. وبقي لصيدا ولتيار “المستقبل” عنوان هو نفسه ما عمل من أجله رفيق الحريري. حماية لبنان. مع فارق وحيد وكبير هو بتحقيق العدالة بعد معرفة الحقيقة في جريمة اغتياله كي ينال المجرمون عقابهم.