«نازلاً من نحلة الجرح القديم إلى تفاصيل البلاد وكانت السنة انفصال البحر عن مدن الرماد وكنت وحدي.. ثم وحدي.. آه يا وحدي» (من أحمد العربي لمحمود درويش)
بعد إسدال الستار على المحكمة الخاصة بلبنان، وبالرغم من اللغط القائم على معنى الحكم، إن كان قد طال عنصراً قيادياً في «حزب الله»، ولم تتمكن المحكمة من إدانة أو تجريم أي من المشاركين المذكورين في لائحة الاتهام، ولا بإخراج دائرة التهم والتجريم إلى من خطط وأمر وموّل هذه الجريمة. ولكن ما فات الناس بشكل عام، هو معنى أن يكون عنصر من الحزب مداناً بالجريمة، ولم يتبرأ منه حزبه، ولا سلّمه للسلطات. لكن بالنسبة لي، ومنذ بدايات البحث عن الحقيقة، أي أيام كان الاتهام موجّهاً للنظام السوري دون غيره، كنت أعتبر أنّ جريمة بهذا الحجم لا يمكن أن تحصل من دون معرفة مخابرات «حزب الله». لكن بعد حرب 2006، أصبحت موقناً أنّ «حزب الله» لا بدّ متورط بهذه الجريمة، لأسباب رأيتها أنا واضحة في السياسة وفي دراستي لعقلية الحركات ذات الطابع العقائدي الثوري، وكيفية استهوانها الحلول العنيفة للقضايا الشائكة.
منذ بضع سنوات، التقيت شاباً كان عمره ستة عشر عاماً، يشبه كل اليافعين في عمره، على الرغم من هدوئه ووجود ابتسامة يشوبها الحزن على وجهه. كان على والده أن يعرّفني به. إنّه حسام، فتذكّرت ذاك الطفل الذي حمله جدّه وسار به فخوراً فرحاً في وسط بيروت، شارحاً له ما تحقق من بناء وإنماء، بعد أن رفع عنها كاهل حرب مجنونة استمرت لعقد ونصف، مردّداً في صوت كالصدى «تذكر يا حسام أنّ الحرب شرّ مطلق، أنا أكره الحرب».
لم يكن رفيق الحريري يعلم يوم أتى إلى عالم الشأن العام في لبنان، أنّ اله الحرب «مارس» بدأ بترصده وأخذ يتحيّن الفرص ويخطّط ويرسم، في وكر من الأوكار المظلمة، ليقتل عدوه الساعي إلى إنهاء دوره المبني على اليأس والحرب والفوضى، من خلال الأمل والسلام والاستقرار.
لست أدري لماذا استهتر رفيق الحريري بقدرات عدو، هل كان ذاك الميل إلى الإيمان بالقدرية والتسليم؟
هل كان ذاك التفاؤل الأسطوري الذي امتاز به بين الجميع؟
هل كانت تلك الثقة بأنّ الرعاية الإلهية تحميه؟
هل كان كل ذلك أم أنّه كان يظن أنّ «مارس» سيحن قلبه ويلقي سلاحه رأفة بالبشر، بعد أن رأى البنيان يرتفع والأمل يتوسع؟
أم أنّه فعلاً أساء التقدير في عدوه، عندما ظنّ أنّه ببضع كلمات أقنعه بأن يكون صديقاً له؟
أم أنّه كان يعلم بأنّه سائر لا محالة إلى حتفه، لكنه كان كسقراط يوم تجرّع السمّ ليصبح شهيد رسالته؟
ليعذرني من قد تخدشه عبارتي، فرفيق الحريري لم يكن «دقيقاً» عندما قال «ما حدا أكبر من بلده»، فهو بالذات كان يعلم علم اليقين، أنّ المهام التي كان يحملها على كتفيه المثقلين أكبر بكثير من بلده، ولكنه كان يعلم أنّ مصير بلده الصغير مرتبط بنجاح مهماته العابرة للحدود والقارات، فتحمّل الوزر من أجل بلده، وبالتأكيد ليثبت أنّ ابن صيدا الآتي من الغيب قادر على فعل ما كان مستحيلاً أمام حجم المأساة. وهو كان يعلم أنّ «مارس» يعتبر نفسه، وعن حق وقناعة، بأنّه أكبر بكثير من بلده، وأنّه جزء من مشروع أممي، ومع ذلك، فقد ظنّ رفيق الحريري أنّه قادر على إقناعه بالتضحية بمشاريع الموت والدمار النابعة من أسطورة، رأفة ورحمة ببلده الصغير المثقل بجراحه…
كان ذلك المسعى يشبه محاولة إقناع النار بالرأفة بجذوع الشجر، أو إقناع السيف بمداعبة الرقاب بدل قطعها، أو إقناع الحيوان اللاحم بأن يرعى العشب إلى جانب المواشي بدل افتراسها، أو يقنع تمساح النيل العملاق بأن يترك القطعان المرتعبة على ضفة النهر لتمرّ بأمان، ولوّ مرة واحدة!
لكن واقع الحال هو أنّه لكلٍ طبعه وغرائزه، و»مارس» كان سيموت حتماً لو أنّه حمل في يده غصن الزيتون واكتفى بأكل العشب، وحسب رؤية «شوبنهاور» فالغريزة (الرغبة) هي أقوى من العقل، والفلاسفة فقط هم من يقوى عقلهم على غرائزهم. بالمحصلة، فقد خسر حسام جده، وورث مسحة الحزن التي ترافقه.
لكن «مارس» لم يكن يقصد أن يحزن حسام بالذات، فهو طفل مثل ملايين الأطفال الذين خسروا أجدادهم وآباءهم وأمهاتهم وإخوتهم والبيت الذي يسكنونه والحي الذي يرتادونه والمدرسة والأصحاب وصيحات الفرح وأماكن اللهو، بسبب مشاريع «مارس». لكن رفيق الحريري كان عائقاً لا بدّ من إزالته من الدرب لإكمال مشروع الدمار الأسطوري، الذي لا يجرؤ عليه إلا آلهة الحرب. ولا شيء يزعج آلهة الحرب أكثر من دعاة السلام والأمل والازدهار.
لم تكن حرب لبنان الأهلية من صنع «حزب الله»، ولكن تلك الحرب هي من أوجدته، فاستمدّ طاقته من نارها وتنظيمه من فوضاها وصلابة عوده من الدم والدمار والأحزان والمآسي التي رافقتها. كان الحزب يراهن على استمرار الحرب وتعميم الفوضى، ليبقى هو في النهاية بعد دمار كل شيء حوله. لذلك لم يكن من الغريب أن يكون من سعى لإنهائها باتفاق الطائف، عدواً منطقياً لهذا الحزب، الذي أعلن مباشرة رفضه للاتفاق، لا لشيء إلّا لأنّه ينهي الحرب ويضع حدوداً لأحلامه بالبقاء بعد زوال الآخرين من طريقه المدمّر. ولم يكن مستغرباً أن يكون رفيق الحريري يومها خطا أولى خطواته نحو الخطر، فقد حرم الحزب من نصر مبكر، أو على الأقل أخّر لحظة الانتصار.
كان من الممكن أن ينسحب رفيق الحريري يومها، ويعود لمشاريعه الشخصية وشركاته ويكدّس المليارات بضمير مرتاح، لأنّه أدّى واجبه تجاه بلده، فقد ساهم بوقف الحرب والدمار، كما أنّه أعطى فرصة التخرّج من الجامعات للآلاف من الشبان.
لكن السلام في لبنان كان هشاً، وكان يحتاج للتدعيم بالأمل والبناء ورفع الاقتصاد من قعر الهاوية وإعادة الكهرباء إلى البيوت ووصل المدن والقرى بالطرقات، وكسر حلقة الأحقاد بالمصالحات والتسويات. كما أنّ المنطقة كانت تبدو أمام منعطف جديد عنوانه مؤتمر مدريد للسلام، وكان على رفيق الحريري أن يسابق الزمن للإعداد للمواجهة مع قدرات إسرائيل الهائلة في السلم بعد فشلنا الذريع في الحرب.
كان على رفيق الحريري أن يسير ضمن حقل ألغام شديد التعقيد، هو واقع لبنان المشتت بين المذاهب والطوائف واستمرار الاحتلال الإسرائيلي، مضافاً إليه التداخل الخطير لنظام حافظ الأسد في كل مفاصل السياسة والأمن، إلى الدمار الهائل في كل شيء، من بنية تحتية إلى إدارة وتربية وجيش وقوى أمن ونخب، كان عليه بناء الهيكل من جديد ووضع كل تمثال في مكانه، وهذا ما أقدم عليه بفرح وتفاؤل ومن دون خوف.
سار رفيق الحريري في حقل الألغام، ولكنه اعتبر في كل ذلك المسعى عدواً يجب مراقبته والحد من حرّية تحرّكه من قِبل القوتين المحتلتين للبنان. فحافظ الأسد كان مشككاً بمشاريع الانفتاح الاقتصادي، الذي لا يمكن أن يكون ناجزاً من دون بعض الحرّية السياسية، وتلك الحرّية كانت تعني نهاية حتمية لحكم آل الأسد الابدي. أما «حزب الله» فقد كان يعتبر المعسكر الذي ينتمي إليه رفيق الحريري عدواً مطلقاً، أو شيطاناً أكبر.
وعلى الرغم من أنّ رفيق الحريري أدرك مسبقاً عبثية وسائل الصراع التقليدي مع إسرائيل، لكنه في الوقت ذاته كان يشعر بالتقدير والاحترام والوفاء لمن يواجه إسرائيل بالوسائل التقليدية المرتكزة على التضحية بالذات.
من هنا، فقد حاول المستحيل لحماية ما سُمّي المقاومة، وكان له دور أساسي في إصدار قرار دولي متوازن خلال حرب عناقيد الغضب سنة 1996 حمى فيه المدنيين من عشوائية الردود الإسرائيلية على أعمال المقاومة.
حتى ذلك الجهد الجبار، وضعه نعيم قاسم في كتابه عن «حزب الله» في خانة وزيري خارجية سوريا وإيران، ولم يذكر بالفضل شيئاً عن رفيق الحريري. بالطبع، فمهما مارس بعض أعضاء الحزب التقية في السياسة، لكن المكنونات الحقيقية لأفرادها كانت تظهر واضحة في أدبياتهم الموروثة والمكتوبة.