«فيمَ الإقامة في الزوراء لا سكني بها ولا ناقتي فيها ولا جملي ناء عن الأهل صفر الكف منفرد كالسيف عري متناه من الخلل» (لامية العجم للطغرائي)
مسألة عرقلة مشاريع الإنقاذ المالي والإقتصادي قضية معروفة بعد عام 2002، وكانت تتلخّص بالكيدية والسلبية من قبل المنظومة الأمنية السورية – اللبنانية. كانت تلك المنظومة خائفة من أيّ نجاح يسجل في خانة رفيق الحريري، حتى لو كان يصبّ في المصلحة الوطنية العليا. لقد اعتبرت المنظومة رفيق الحريري في مصاف العدو، وليس خافياً أنّ الود كان مفقوداً بين رئيس الحمهورية ورفيق الحريري لأسباب شتى.
الود كان مفقوداً في الوقت نفسه بين رفيق الحريري وبشار الأسد على المستوى الشخصي أولاً، ولكن يضاف إلى ذلك اقتناع أركان نظام الأسد بأنّ نجاح الحريري المحلي والدولي، سيؤدي عاجلاً أم آجلاً إلى تراخي القبضة السورية على لبنان، وبالتالي الذهاب إلى تطبيق «اتفاق الطائف» وما يتضمنه من انسحابات للقوات السورية.
لم يتمكن النظام السوري الذي تحوّل، مع بشار الأسد، إلى نظام فساد بكامله، مع انفتاح شكلي في الإقتصاد وفي بعض المسائل الهامشية العامة، مع استمرار سلطة المخابرات المطلقة، من تَفهّم فكرة الشراكة المصلحية مع لبنان التي حاول رفيق الحريري تسويقها مع حافظ الأسد قبل إبنه، وحتى قبل الوصول إلى «اتفاق الطائف».
في تلك الفترة أيضاً انعقدت قمة بيروت العربية وطرحت مبادرة السلام المُستندة إلى مرجعية قرارات مجلس الأمن ومؤتمر مدريد للسلام في خصوص النزاع العربي – الإسرائيلي. لقد شكلت هذه المبادرة إحراجاً مزدوجاً، فمن جهة رفضتها إسرائيل على أساس أنّ الطرح تجاوَزته المتغيرات الدولية والإقليمية بالنسبة إليها، ومن جهة أخرى اعتبرت المبادرة تجاوزاً للمعسكر الذي ترأسه إيران، والذي يعتمد على استمرار النزاع مع إسرائيل لاستكمال حلم إنشاء امبراطورية ولاية الفقيه.
كل ذلك، مع أنّ بشار الأسد وقّع المبادرة على الرغم من حلفه مع إيران، لكنّ التشنّج بَدا واضحاً من خلال بلبلة قيام ياسر عرفات بالتحدث إلى المؤتمر من رام الله، وما رافق ذلك من رفض رئيس جمهورية لبنان وبشار الأسد، وإصرار الرئيس الحريري على إعطاء الفرصة للرئيس الفلسطيني لإيصال كلمته.
كل تلك الأمور عادت وصارت في مكان آخر بعد احتلال الولايات المتحدة الأميركية العراق عام 2003، والتغييرات الهائلة في موازين القوى بعد أن فتحت أبواب المنطقة بنحو كامل لنفوذ إيران وبدء الحديث الواقعي عن إنشاء الهلال الشيعي.
هنا عاد نشاط الرئيس الحريري الدولي لإقناع مواقع القرار الدولي بخطورة التغاضي عن هذا المشروع لأنه سيدخل المنطقة والعالم في نزاع جديد غير محسوب العواقب، وسيضع مليار مسلم سني في مواجهة مباشرة مع المشروع ومع داعميه الغربيين، يعني أنّ السنّة العرب بالذات سينظرون إلى ما يحدث على أساس أنه «مؤامرة شيعية صليبية ضد السنّة».
هذا كله يعني أنّ رفيق الحريري أصبح هدفاً لثلاثة مشاريع متشابكة:
– كان هدفاً واضحاً لأتباع نظام الأسد في لبنان لِما يشكّله من خطورة على مشروع استخراج المرابح في السلطة والمال من لبنان.
– كان هدفاً لنظام الأسد لِما يشكّله من خطورة على تأبيد مشروع السيطرة على لبنان، ولوجود رفيق الحريري في معسكر عربي ودولي مختلف عمّا يريد النظام السوري أن يراه في رئيس حكومة للبنان.
– كان هدفاً لمنظومة ولاية الفقيه لضرب دور الحريري اللبناني ودوره العربي ودوره الإسلامي ودوره الدولي، وكلها كانت تعتبر إعاقة لمشروع مَد سلطة الولي الفقيه على أوسع مساحة من الأراضي الإسلامية.
قاومَ رفيق الحريري على مدى ثلاث سنوات محاولات خنقه سياسياً، وكان يأمل في أنّ نهاية عهد رئيس الجمهورية ستعفيه من أحد مواقع العداء له، عندما يأتي رجل أقلّ تنافراً معه إلى هذا الموقع. في أوائل العام 2004، وفي لقاءات متفرقة، سألتُ الرئيس الحريري شخصياً عن أسباب قبوله بأن يحاصر في حكومة لا يملك فيها القرار وفي الوقت نفسه يتحمّل تبعات الفشل؟ أجاب أنّ فترة الرئيس أصبحت في نهايتها، ولا يمكن أن يأتي رئيس بالمواصفات نفسها.
وبالتالي، فمن الممكن إنقاذ ما يمكن إنقاذه حتى ذاك اليوم، لهذا فقد بقي يتحمّل الأذى اليومي الشخصي الذي كان يلحق به. وعندما سألته عن احتمال التمديد، أجاب قاطعاً بعدم الإمكانية. وعندما سألته عن احتمال اختيار شخصية تشبه الرئيس الحالي، أجاب أنه لا يوجد إنسان يشبهه.
ختم رفيق الحريري بقوله: «هذا البلد لنا ونحن مؤتمنون على ما قمنا به من إنجازات وعلى المستقبل لأبنائنا، لن أهرب من هذه المسؤولية مهما كانت التضحيات، ولن أترك البلد لمجموعة من الحمقى المُفسدين». (البقية آتية)