Site icon IMLebanon

هل تتحمّل «السياسات السابقة» وحدها مسؤولية انهيار أوضاع لبنان؟ (1 / 2)

 

الحريرية الأولى قدَّمت خطة نهوض ودقَّت جرس الإنذار.. لكن العراقيل والكيديات عطَّلتها

 

 

لا يترك رئيس الجمهورية ميشال عون مناسبة إلا ويحمّل «السياسات السابقة» مسؤولية انهيار الأوضاع في لبنان. بدوره رئيس الحكومة حسان دياب لم يجد، في لحظةَ إعلانه لبنانَ دولةً متعثرة بعد جلسة مجلس الوزراء في 7 آذار الجاري، مِشجَباً يُعلق عليه الكوارث التي حلّت بالبلد سوى «النموذج الاقتصادي الذي أرسته السياسات السابقة»! هكذا يحاول رئيس الجمهورية ومعه رئيس الحكومة ردّ الأسباب التي أوصلت لبنان إلى ما وصل إليه الآن من تردٍّ في أوضاعه المالية والنقدية، إلى السياسات المالية والاقتصادية التي اعتمدتها الحكومات على مدى العقود الثلاثة الأخيرة، وهو تعبير يُفهم منه بحسب الاستخدام السياسي في لبنان، ما يسمى بـ«الحريرية السياسية»، أي حكومات الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وحكومتي الرئيس فؤاد السنيورة (2005 – 2009)، ولاحقاً ربما، حكومتي الرئيس سعد الحريري (2009 – 2011 و2016 – 2019).

 

من نافل الأمور، الاعتراف بأن أوضاع لبنان باتت في قعر القعر، وأزمة فيروس «كورونا» وجريمة اعتداء المصارف على أموال المودعين تؤكد المؤكد في هذا الاتجاه لناحية غياب الدولة وانعدام إمكاناتها، ناهيك عن القضايا والأمور الأكبر، لكن الانتقاد المذكور يستبطن غَرَضيةً لا تتناسبُ وخطورة اللحظة التي يمر بها البلد على أكثر من صعيد. أسطوانةُ «السياسات السابقة» إلى كونها باتت مشروخةً وباليةً لكثرة استخدامها الكيدي، هي لا تستقيم هنا لاعتبارات عدة، أهمها أن أطرافاً رئيسة وفاعلة في كل المراحل السابقة، هم الآن رعاة العهد حتى الأمس القريب. أما الرئيس دياب فقد أدخل نفسه، سريعاً، في دوامة السجال لا العمل، والإرباك لا الابتكار، فيما العهد والحكومة عاجزين أمام ملفات داهمة وخطيرة، من «كورونا» إلى ضرورة خوض تفاوض جدّي وشفّاف مع صندوق النقد الدولي، وعدم الاكتفاء بتوزيع الاتهامات والإمعان بعزل لبنان عن محيطه العربي والأسرة الدولية.

 

الشيطنة وتغطية الفشل

 

كان يمكن لأطراف سياسية معينة، جرياً على عادتها، اللجوء إلى هذه المعزوفة، فلطالما ارتكز خطاب هذا المحور في الهروب من تحمل المسؤولية، إلى تكتيك ثنائي يقوم، أولاً، على شيطنة «السياسات السابقة» وتحميلها مسؤولية الأوضاع الكارثية، وثانياً، الإفادة من هذا الصخب لتغطية الفشل في إدارة الملفات الكبرى، خصوصاً وأن مجمل الأطراف السياسية الرئيسية، كانت ممثلة في جميع حكومات ما بعد الطائف، وانضم إليهم «حزب الله» في العام 2005، فـ«التيار الوطني الحر» في 2008، وهذه الأطراف لم تكن شريكة فقط، بل مؤثرة في القرار الحكومي، وهي تولت مسؤولية وزارات وإدارات اتسمت بالهدر الفاجر، ورتبت على الدولة وماليتها العامة أعباء هائلة، وتسببت بزيادة الدين العام، كوزارة الطاقة مثلاً.

 

يحلو للرئيس فؤاد السنيورة تشبيه انتقاد رئيس الجمهورية للحكومات السابقة، وتحميلها مسؤولية الانهيار المتعاظم، كمن يركب سيارة ويستعد للسير قدماً، لكنه بدل المضي قدماً، يصرّ على النظر بالمرآة الخلفية، رغم أن النظر إليها ضروري بين حين وآخر، أما استمرار التحديق بها حصراً سيؤدي حتماً إلى كارثة، وهذا ما ينطبق على الأداء المرتبك لـ«حكومة الفاخوري» التي تريد ولا تريد مساعدة صندوق النقد، وتناقش مشروع «كابيتال كونترول» قبل أن تطرح خطة إنقاذية، وتبدو كمن وضع حصانه خلف عربته وينتظر الوصول إلى غايته!

 

في تقدير الرئيس السنيورة، أن «العودة للماضي جائزة، وقد تكون ضرورية، لكن فقط للاستفادة منه ومن أخطائه، ومن ثم توظيف ذلك في معالجة أزمات الحاضر، وليس للكيديات والانتقام والمحاكمات السياسية، والتشفي والاتهام وتغطية الفشل وتبرير المحاصصة والتملص من مسؤولية ما وصلت إليه حال الدولة»، وهذا ما ينطبق على العهد وشركائه.

 

على مدى عقدين مارست القوى السياسية لعبتها الأثيرة التذاكي، والتجاذب، وتبادل الاتهامات، والشعبويات التي يستعصي معها الإصلاح

 

خلال أكثر من ثلاثة عقود، لم تتغير أزمات لبنان بشقيها السياسي والاقتصادي؛ الهيمنة على القرار السياسي، وشعبويات خطاب تعزيز المكاسب الخاصة على حساب المصلحة الوطنية المشتركة، وعرقلة مشاريع الإصلاح ومكافحة الفساد لصالح ثقافة تكريس الزبائنية والمحاصصة وانتهاب المال العام، وقد أضيف إليها خلال العقد الأخير، التورط بهزّ استقرار دول في المنطقة، والمشاركة بالحرب السورية من قبل حزب الله، وهو ما جرّ تبعات وعقوبات سياسية واقتصادية على لبنان.

 

هل صحيح أن «الحكومات السابقة» (=الحريرية السياسية)، تتحمل مسؤولية الانهيار «وحدها»، وما آلت إليه أحوال الجمهورية من تشتت وفساد وإفلاس وعزلة… ووباء؟ أم أنها كانت تحمل مشروعاً إصلاحياً، يحتمل الصواب أو الخطأ ويستحق التأييد أو عدمه، لكن الفساد السياسي وغياب ثقافة الدولة ورجالاتها حال دون إستكماله؟

 

من المعلوم أن مشروع الرئيس رفيق الحريري تضمن شقاً وطنياً – سياسياً يقوم على إزالة آثار الحرب، وانتظام عمل المؤسسات، ومعالجة هواجس المكونات اللبنانية واستعادة مكانة لبنان ودوره، وآخر مالياً – اقتصادياً يرتكز إلى رؤية تنموية، تستلزم حزمة إصلاحات، بنيوية وقطاعية وإدارية، ضرورية تكرر طرحها في اكثر من مناسبة وعلى مدى عقدين من الزمن لكن لم يتم الالتزام بها، بل جرى الالتفاف عليها وعرقلتها أو تعطيلها بكيدية.

 

خطة إصلاحية رباعية البنود

 

في استعادة لبعض مواقف الرئيس السنيورة، بوصفه شاهداً ومسؤولاً وركناً من أركان «المرحلة السابقة»، يمكن رصد بعض معالم «النموذج الاقتصادي» الذي تنتقده جماعة العهد. في العام 2002، وخلال جلسة التصديق على الموازنة العامة، دافع السنيورة عن السياسات الاقتصادية والمالية للحكومة حينها، والتي تسعى إلى «تحقيق النمو المستدام، وتخفيض الإنفاق وتخفيض العجز والدين العام، وهما هدفان مترابطان»، فتخفيض العجز يحقق النمو، والنمو بالتالي هو السبيل الرئيس لتخفيض الدين والتمهيد لإطفائه، وفي فلسفة السنيورة أن ذلك يكون عبر «تخفيض حجم الإدارة لخفض أنفاقها، وتخفيض العجز، وتشجيع الاستثمار وإيلاء دور أكبر للقطاع الخاص في حركة الاقتصاد الوطني»، وكل ذلك على قاعدة أن «لا انفاق إضافيا من دون واردات اضافية، ولا انفاق إضافياً من دون جدوى اقتصادية واجتماعية»، لكن في المقابل، مارست القوى السياسية لعبتها الأثيرة: التذاكي، والتجاذب، وتبادل الاتهامات، والشعبويات التي يستعصي معها الإصلاح!

 

قبل ذلك، أي في العام 1998، قدمت حكومة الرئيس الحريري رؤية إصلاحية تقوم على أربع ركائز هي: الإصلاحات المالية، النقدية، القطاعية، الإدارية (حجم الدولة)، تهدف، في ما تهدف إليه، إلى تقليص حجم الإنفاق وحصره بالضروري والمهم، وإعادة الاعتبار للكفاءة في الإدارة العامة وليس حشو الدولة بالمحاسيب. ما حصل أنه بعد انتخاب اميل لحود في 1998، أقرّ قانون رفع الحدّ الأدنى للرواتب والأجور، لكن جرى حذف خمس مواد إصلاحية بامتياز منه؛ وتتعلق بساعات الدوام، وآلية التعيينات في الإدارة العامة، وحصرها بمجلس الخدمة المدنية، وأنظمة تقييم أداء موظفي الإدارة العامة، وإنهاء الخدمات.. بمعنى أدق كان حذفها من القانون تكريس لمنطق حصر التوظيف بالمحاصصة السياسية والمحسوبيات والزبائنية، وغلق الباب أمام العملية الاصلاحية، من دون الالتفات إلى أن الانفاق يجب أن يكون لتحقيق النمو وليس لمراكمة العجز.

 

الإصلاحات المالية والنقدية والقطاعية وحجم الدولة تهدف إلى تقليص الإنفاق وحصره بالضروري وإلى إعادة الاعتبار للكفاءة في الإدارة العامة لا حشوها بالمحاسيب

 

بعد ذلك كرّت سبحة طويلة من التجاوزات التي كانت تتلطى خلف صراعات سياسية أو كيديات ما يزال التاريخ الطريّ يذكرها، والأهم أن الدولة كانت تدار بدون تنبه لضرورة الاصلاح وضبط المالية العامة لتحقيق النمو المستدام، مع نقطة مهمة أخرى، وهي أن مكانة الرئيس الشهيد رفيق الحريري العربية والدولية كانت كفيلة باستمرار تقديم المساعدات والهبات للبنان، وهو ما حصل في مؤتمر «باريس – 1» وما بعده، مع العلم أنها جميعاً ركزت على مشكلة الاستعصاء في ضبط الإنفاق وعدم تبني خطوات إصلاحية جدية، وهي شددت على أن الانفاق يجب أن يكون لتحقيق النمو وليس لمراكمة العجز، وما جرى أيضاً أن الإنفاق كان يحصل لعمليات إرضائية وسياسية فلم يحقق نمواً، أي أنه خالف القاعدة العامة في ضرورة الموازنة بين ثلاثة أمور: حجم الانفاق وجدوى الانفاق وحجم الواردات للابقاء على مستويات مقبولة من النمو، وفق الرؤية المالية لحكومات «المرحلة السابقة»، إلى جانب قرارها المتعلق بتثبيت سعر الصرف للمحافظة على الاستقرار النقدي والاجتماعي وعدم تعريضه لمزاجية المحتكرين.

 

في الجانب القطاعي، جرى التركيز على ورشة تنموية ضخمة في قطاعات الكهرباء، الصحة، المدارس الحكومية، الاتصالات، البنية التحتية والطرق وغيرها، كانت سبقتها ورشة إعادة الإعمار لوسط بيروت والمطار وتوسعة المرفأ والمبنى الموحد للجامعة اللبنانية، وإزالة آثار الحرب ومخلفاتها.

 

في ما يتصل بحجم الدولة، ارتكزت الرؤية على ضرورة «ترشيق الإدارة»، وهو المصطلح الذي سَبَكهُ الرئيس السنيورة ولم يكلّ لسنوات يبشّر به ويدعو إليه على قاعدة أن الإدارة (بشقها البشري) أداة لخدمة الناس وتسيير الشأن العام، وليست مؤسسة رعاية اجتماعية لتوزيع المغانم والتنفيعات على الأزلام والمحاسيب «وعندما تتعدى الكلفة المنفعة فهناك ضرر»، لكن ما كان يحصل هو عكس ذلك، فجرى تضخيم حجم الإدارة وتكلفتها بشكل أضرّ بمالية الدولة، وانعكس سلباً على الموظفين أنفسهم لأنه «وضع الحصان خلف العربة» كما يقول السنيورة.

 

الإنفاق للنمو وليس لمراكمة العجز

 

وكما في العام 1998، كذلك في العام 2017، حرص النواب والكتل السياسية على استرضاء المعلمين والموظفين من خلال إقرار سلسة الرتب والرواتب، لكن من دون أي تركيز على مصادر تأمين الواردات، وفي جلسة مناقشة السلسلة في 2017، جدد السنيورة صرخته، واعتبر يومها أن الجلسة، بما سيترتب عليها من مصاريف من دون تأمين واردات كافية، «قد تكون من أهم وأخطر الجلسات النيابية»، وجدد المطالبة بأن «يتلازم إقرار السلسلة مع إقرار مجموعة من الإجراءات والقوانين الإصلاحية، وكذلك مع الإجراءات التي تؤمن إيرادات إضافية للخزينة اللبنانية»، مستعرضاً المسار الطويل لعرقلة الاصلاحات منذ العام 2000 ولحينه مع ما يعنيه ويرتبه من آثار سلبية، بل مدمرة، وسأل «لماذا نستمر في حال التلكؤ والتقاعس والامتناع عن المبادرة، وهذا واجب رجالات الدولة وقياداتها؟».

 

أكثر من ذلك، وبعد عشرين سنة على إقرار سلسلة العام (1997)، عاد السنيورة وخلال جلسة مناقشة موازنة العام 2017، ليذكّر بالمشهد السوداوي المسيطر على الحياة السياسية والأداء الحكومي والعملية التشريعية (خصوصاً مع تكريس بدع حكومات الوحدة الوطنية والثلث المعطل والعهد القوي وغيرها)، قال يومها معلقاً على توصيات معالجة الأوضاع الاقتصادية والمالية، إن «المشكلات التي كانت موجودة في العام 1997، هي ذاتها موجودة في العام 2017، الفرق الوحيد أنها زادت حدّة وخطورة عما كانت عليه نتيجة التقاعس والإهمال والتلكؤ عن المبادرة، والإصرار على اعتماد المعالجات الشعبوية التي هي ليست بمعالجات، بل ليست سوى أمعاناً في تعميق الحفرة التي جرى دفع الوطن واللبنانيين إليها، نتيجة الامتناع عن سلوك طريق الإصلاح الصحيح».

 

في الخلاصة، يؤكد مسار الأحداث أن سياسات «المرحلة السابقة» كانت تملك رؤية تنموية وإصلاحية، لكن أطرافاً سياسية عرقلت، وبالتالي المسؤولية لا تقع على طرف واحد حصراً، بل على كل من تورّط أو منع أو لم يحرص على الالتزام بمقتضيات الخطة الإصلاحية، مثل الحدّ من العجز، وتحقيق معدلات نمو إيجابية، وعدم الانتباه لتحقيق نمو في القطاعات: المالية، النقدية، القطاعية والإدارية، التي تمّ تجاوزها لمصلحة سياسات شعبوية وكيديات انتقامية وانتهاب مقونن للمال العام وصولاً إلى النتيجة التي تمثلت بإعلان لبنان دولة متعثرة أمام الجهات الدولية الدائنة.