لو قُدِّر لـ “ألفرد هيتشكوك” العودة إلى الحياة لما اختار أفضل من مشهد طيور النورس الحائمة فوق كرسيه على مكب “الكوستابرافا” مَطلعاً لفيلم رعب محوره مطار بيروت الدولي. وفي خضم الإثارة المخزية قد يشكل اقتراح رئيس مجلس إدارة “الميدل إيست” إرسال الصيادين إلى المكبّ لإعدام النوارس لمنعها من اختراق محركات الطائرات لقطة مميزة وعنصر تشويق.
ليس ما تقدّم ضرباً من الخيال بل هو واقع يُخشى أن يترجَم يوماً كارثةً يدفع ثمنها مئات الأشخاص وعائلاتهم وتزيد سمعة لبنان تلوثاً، خصوصاً أن عاهات المطار أخطر من «طيور» الظلام والنهار، أو الإهمال وترك القدر يلعب كيفما شاء. ففي تلك البقعة الجغرافية المحددة على التخوم الجنوبية للعاصمة تُختصر “قصة دولة ودويلة” تتداخل أدوارهما، ويتبادل أبطالهما الأقنعة، ويسود مسرحهما منذ سنوات طوال العبث والتهريج على السواء.
أمن مطار بيروت موضوع يجب ألا يُقفَل على الإطلاق. وهو خطير لدرجة استفظاع أن تمر حوادث من نوع إصابة الطائرات بالرصاص العشوائي تكراراً في الأسابيع الأخيرة من غير أن ترتفع الأصوات لإيجاد حل نهائي يحول دون إلحاق الأذى بالمسافرين، قبل أن تتم المطالبة بتحرير المطار- الرهينة من سلطة الأمر الواقع وإعادته إلى بيت الطاعة وإمرة الدولة.
ومع تقديرنا لنوايا وزير الداخلية الحسنة ولنكتة وزير الأشغال أن “المطار آمن” وللسمعة الطيبة لعدد من الضباط المولجين أمنه، فإنّ القاصي والداني يعلمان كيف تتداخل الصلاحيات وتتعارض الولاءات بين الأجهزة الأمنية، وكيف تجري المحسوبيات ويتم التغاضي عن التسيّب والمخالفات. المسألة واضحة لدى المواطن العادي مثلما هي مدار تندّر لدى بعض المولجين بالمسؤوليات هناك، ومثار انتقادات مباشرة من سفارات تعرف أن لا سيادة فعلية للدولة على هذا المرفق الحيوي، وتبني سياسات مهمة تجاه لبنان على هذا الأساس.
ما يحفظ النظام نسبياً في المطار هو عملياً “أمنٌ بالتراضي” عنوانه اليوم “رَوقوها يا شباب لئلا تقصف إسرائيل مورد رزقنا من القادمين حاملين الفريش دولار”. وهو صورة مصغّرة عن علاقة الدولة جنوباً مع “حزب الله”، وحتى علاقة القوات الدولية مع الحزب نفسه قبل حادثة العاقبية وبعدها. وعلى هذا المنوال قد تتحوّل علاقة الدولة مع القوى الطائفية والمجموعات ذات العصبية الأهلية إذا استمرّ الانهيار وتفكك المؤسسات وبقي “نموذج المطار” صارخاً ينادي الرغبة في الاقتداء.
لا نطلب من المنظومة الفاسدة أي إصلاح. أفعالها تشهد عليها على كل المستويات، لكن أين نواب قضاء بعبدا الذي تتبع له أرض المطار؟ بل أين نواب بيروت الكرام لا يحتجون ويصرخون لإخراج “مطار رفيق الحريري” من محنة اهتزاز الثقة الدولية وعدم الاستقرار والمخاطرة بالحياة؟
بعض الجرأة واجبة لأن الحلول متاحة شرط توافر الإرادة والإقلاع عن التسويات والمسايرات وعُقد الأكثريات التي تستبطن رغبة في الهيمنة مهما ساءت الأحوال. فإما مطارٌ تابع للدولة منشآت وطرقات وبيئة خاضعة للقانون، وإما مطار بديل ورديف لمن شاء السلامة والبقاء في كنف دولة الشرعية والمؤسسات. ورُبَّ ضارة نافعة. فقد يكون مطار القليعات فاتحة خير للامركزية طال انتظارها، تُثري المناطق وتشكل نموذجاً ناجحاً وتنسحب على سائر القطاعات.
كفى تطيُّراً من اللامركزية الموسعة والصيغ الاتحادية المتنوعة. الخوض في مناقشتها ضروري، فقد تُجدِّد معنى الصيغة ودور لبنان إذا استعصى التمسك بوحدة مريضة بالقسر والاستقواء.