«كل يوم لك احتمال جديد
ومسير للمجد فيه مُقام
إذا كانت النفوس كبيرة
تعبت في مرادها الأجسام»
(المتنبي)
لا بدّ أنّ الأسى كان يغمر قلب رفيق الحريري عندما كان يُرغم على معالجة صغائر الأمور المتعلقة بزواريب السياسة اللبنانية على مدى ربع قرن من حياته في الشأن العام. فعلى رغم من جسامة المهمات الملقاة على عاتقه، فإنّه كان يعلم، أنّ حتى أتفه الأمور كان فيها القدرة الكامنة على إعاقة حتى أهم المشاريع ذات الأبعاد الوطنية والقومية وحتى العالمية، في ظل الوقائع المحلية والإقليمية الشوهاء. لذلك، فقد كان عليه، وشخصياً في كثير من الأحيان، التعامل مع مسائل قد تبدأ في حَرَدِ ضابط مخابرات، إلى حساسيّة زعيم محلي، إلى استكبار مرجع طائفي، إلى ما هنالك من تفاصيل لا مكان لها في عالم السياسة، وإن كانت في لبنان تُسمّى سياسة. كان رفيق الحريري يعالج معظم تلك الأمور من جيبه الخاص، على أمل أن يأتي يوم يخرج البلد واقتصاده من الأسر. لقد أُجبر الرئيس الشهيد على التعامل مع التفاصيل المتعبة بتفاهتها، ليحمي الرؤيا المستقبلية والمهمات الكبرى الملقاة على عاتقه، هذه المهمات هي التي شكّلت البُعد الآخر لرفيق الحريري.
كانت قيادة الرجل لتحدّي السلام المحتمل الذي كانت بشائره واضحة من خلال مؤتمر مدريد مهمة كبرى. لقد كان التحدّي هو كيفية إعداد لبنان ليكون رأس الحربة العربية في مواجهة مشاريع الهيمنة الإقتصادية والثقافية للكيان الصهيوني. وقد دخل رفيق الحريري في سباق محموم، تمثّل في ورشة الإعمار والتحديث التي أطلقها منذ العام 1992. وضع نصب عينيه بناء اقتصاد متين ومتنامٍ في لبنان، ليكون نواة المشروع الإقتصادي العربي الذي ستستفيد منه سوريا مباشرة، ولكن من خلال شراكة حقيقية كان يمكن أن تُدخلها، وبقوة، في عملية إنماءٍ لا سابق لها، نظراً الى المميزات التفاضلية المتعددة للبنان وسوريا معاً، في حال تكاملا من دون هيمنة طرف على آخر ومن دون استغلال أحدهما للآخر.
ولكن، عملية السلام انهارت في أواسط التسعينات، وتوقف معها انفتاح النظام السوري، المتعثر أصلاً، نحو الحداثة ونحو التوجّهات الديموقراطية، والتي هي أساس أي نمو إقتصادي. وقد أدّى ذلك أيضاً إلى عودة سيطرة التوجّهات الأمنية والمخابراتية إلى خيارات السلطة في سوريا، ما أنتج عملياً ما سُمّي النظام الأمني اللبناني – السوري.
ما حدث خلال حرب «عناقيد الغضب» عام 1992 وانتهى بإرساء تفاهم نيسان، فتح أعين المنظومة الأمنية على رفيق الحريري ودوره ومدى علاقاته الدولية. هنا تداخلت الريبة مع الحسد لنصب جبهة متنوعة لمواجهته. من جهة بدأت عملية الحصار السياسي والإبتزاز المالي والإقتصادي، ومن جهة أخرى بدأت حملات التشكيك والتخوين. وعلى رغم من اعتراف القاصي والداني بدور رفيق الحريري في تشريع المقاومة، رفض «حزب الله» الإعتراف بهذا الدور الذي نُسب كلياً الى وزيري خارجية سوريا وإيران «العبقريين»، وذلك حسب ما قاله نعيم قاسم في كتابه عن «حزب الله».
ولكن، وفي الوقت نفسه، بدأت تلوح في الأفق الدولي والإقليمي بوادر أزمة جديدة تمثلت في بروز نوع جديد من التهديدات الإرهابية للنظام العالمي من خلال المجموعات الأصولية السنيّة، والتي أصبح تنظيم «القاعدة» الممثل الأبرز لها. وكانت الإدارة الأميركية تعتبر الأصوليات الشيعية الخطر الاكبر عليها على مدى عقدين سابقين، منذ احتلال السفارة الأميركية في طهران عشية انتصار ثورة ولاية الفقيه في إيران، مروراً بسلسلة دموية من العمليات الإرهابية الكبرى، والتي كان لبنان المسرح الأهم لها. ولكن، عمليتي كينيا المشهورتين، والتي طاولت إحداهما السفارة الأميركية، دفعتا الإدارة الأميركية إلى إعادة ترتيب أولوياتها، بحيث أصبحت الأصوليات السنّية تشكّل التهديد الإرهابي الأول للإدارة الأميركية.
ما بدأ التخطيط له عام 1996 لتهميش رفيق الحريري أثمر عام 1998 وصول اميل لحود رئيساً للجمهورية، ما أدّى الى إقصائه عن رئاسة الوزراء بأحبولة معروفة، من بعدها بدأت حملة تشويه الصورة مقرونة بتخريب كل ما أنجزه الحريري في كل المجالات بكيدية ركيكة، كانت حكومة الرئيس سليم الحص إحدى أدواتها.
أدّت السياسات الكارثية لتلك الحكومة، تحت شعار التقشف ومحو آثار الحريري، إلى تدهور الوضع الإقتصادي في لبنان وبالتالي ضمور ما يمكن للمنظومة الأمنية اللبنانية – السورية استنزافه، كما أنّ الحملة السياسية الأمنية القضائية الركيكة ضده أثبتت فشلها في شيطنته، لا بل على العكس، فقد زادت شعبيته. هنا اضطر معسكر مواجهة الحريري للإعتراف بخسارته ذاك الجزء من المعركة، فعاد رفيق الحريري ليخوض غمار معركة جديدة عام 2000 بعد انتصاره في الإنتخابات النيابية… والبقية تأتي…