يمرّ أهل السنّة في لبنان بمرحلة دقيقة تكاد تشكّل أزمة في حياتهم السياسيّة والوطنيّة. العامل البارز في هذه الأزمة هو اعلان الرئيس سعد الحريري تعليق نشاطه السياسي، ودعوته تيار المستقبل الى مجاراته في هذا الأمر. وأوّل، وأهمّ تعبير عن ذلك التعليق، هو الامتناع عن المشاركة في الانتخابات النيابية التي ستجرى في 15 أيار المقبل. وتأكيدا لجديّة موقفه، فقد غادر لبنان للإقامة في دولة الامارات العربية المتحدة.
إعلان الرئيس الحريري شكّل صدمة للبنانيين عامة، ولأهل السنّة في لبنان خاصة. وجاءت ردود الفعل متباينة في تحليل هذا الاعلان وفي تحليله وتعليله وتبريره.
.. .هذه مقاربة موضوعيّة علميّة للإضاءة على هذا الحدث بعيداً عن المواقف المتسرّعة رفضاً أو قبولاً، ذلك ان أموراً ومواقف بمثل هذه الأهميّة الإستثنائية في حياة الجماعات والأمم بحاجة الى التوقّف عندها من أشخاص يتميّز الواحد منهم «بعينين نظيفتين» كما كان يقول المفكّرون الاغريق. هذا يعني انه «يرى صحيحاً ويرى بعيداً» أجل، أمام الخيارات الكبرى، الخيارات المصيرية، نحن ملزمون بأن نرى الأمور على حقيقتها اولاً وأن نرى مفاعيلها على الحاضر والمستقبل ثانيا. ولفظة المستقبل هنا تحمل في آن واحد معنيين: معنى اسم الجنس العام في الزمن، ومعنى اسم العلم لتيار المستقبل.
اولاً: في تسمية تيار المستقبل
في منتصف السبعينات من القرن الماضي، صدرت في باريس مجلة عربيّة باسم «المستقبل» مديرها ورئيس تحريرها المرحوم نبيل خوري، واختارني السيد خوري مستشاراً له في المجلة خلال وجودي في باريس لمتابعة الدكتوراه في السوربون (1978-1980). ثم عيّنني مديراً للمركز العربي للدراسات الدوليّة، لم أكن أتجاوز حدود دوري في العمل الصحفي. ولكني أذكر شيئاً ربما يعني موضوعنا الآن، وهو سؤالي للسيد خوري بعد عودته من زيارة للمملكة العربية السعودية عما يراه هناك فأجابني بكل وضوح: أنا لا أتعاطى في السعودية إلا مع شخص واحد هو الأمير سلمان بن عبد العزيز أمير الرياض آنذاك، (وجلالة ملك السعودية الآن).
بعد عودتي الى لبنان، وتدهور صحة الزميل خوري، أخذ الرئيس رفيق الحريري المبادرة بطلب شراء امتياز مؤسسة «المستقبل» وهكذا كان. وأصبحت المستقبل عنواناً لأربع مؤسسات في بيروت تحمل علامات رفيق الحريري في العمل السياسي:
1 – «تيار المستقبل» وهو تيّار الحركة السياسية التي يرعاها الرئيس رفيق الحريري وتعبّر عن نشاطه السياسي في لبنان عامة والجماعة السنيّة خاصة.
2 – «تلفزيون المستقبل» مؤسسة اعلاميّة مكملة للتيار، رؤية.
3 – «إذاعة المستقبل» مؤسسة اعلاميّة مكملة للتيار، سماعاً.
4 – «صحيفة المستقبل» تغطي نشاط التيار، كتابة.
ولعل أهم موضوع ميّز هذه المرحلة هو العمل «للحوار العربي – الأوروبي» وخاصة بين السعودية وفرنسا، بين الأمير سلمان والرئيس جيسكارديستان وقد عملنا بكل جدّ واجتهاد لانجاح هذا المشروع فأفردنا له المقالات وشاركنا في عدّة مؤتمرات حوله في العواصم الأوروبيّة!
ثانيًا: رفيق الحريري والحدّ الفاصل: القرار : 1559
1 – أتهم الكاتب السوري ياسين الحافظ قادة السنّة في لبنان بأنهم «حاراتيون» أي زعماء للحارة الضيقة.
2 – مع رفيق الحريري اتسعت دائرة نفوذه وعمله الى مجمل الطائفة السنيّة وامتدت الى الوطن اللبناني والعربي والاسلامي. الى القوى العالميّة: فرنسا شيراك، وأميركا بوش.
3 – على صعيد الالتزام الفكري السياسي، خرج رفيق الحريري من مجال الزعامة السنيّة الى مجال القيادة الوطنية اللبنانية، بخروج واخراج السنّة من المصالحة مع الكيان اللبناني الى الالتزم بلبنان الكيان النهائي ووقف العدّ الديموغرافي. وبهذا انتقل رفيق الحريري من موقع الزعامة الى موقع القيادة في حياة لبنان السياسية.
4 – وتأكيدًا لهذا الانتقال عمل المستحيل للجمع بين أميركا وفرنسا لاستصدار القرار 1559 مستخدماً صداقته لكل من الرئيسين شيراك وبوش. وتعود الأهميّة الاستثنائيّة لهذا القرار ليس فقط لسحب السلاح من يد المليشيات بما فيها «حزب الله»، بل مما هو أهم وأبعد من ذلك باسقاط مشروع كيسنجر بالسيطرة السورية – الاسرائيلية على لبنان بموجب نظام الخط الأحمر وتأكيد أميركا وأوروبا بأنّ لبنان حقيقة جغرافية وتاريخية بما جعل القرار 1559 أهم قرار أممي في مسار القضية اللبنانية إذ أكّد شرعية ومشروعية الكيانية اللبنانية وعلى حق لبنان في الحرية والسيادة والاستقلال.
5 – لذا يرى العديد من المحلّلين، ان القرار 1559 كان في رأس الأسباب التي ادّت الى استشهاد الرئيس رفيق الحريري.
ثالثًا: سعد الحريري وبهاء الحريري: معيارا المحبّة والخير!
1 – حمل سعد الحريري، وحُمّل، ارثًا ثقيلاً بمضمونه المعنوي والمادي سيادياً وعائليًا ومالياً وسياسياً. ذلك ان استخلاف شخص ذي مكانة تاريخيّة كرفيق الحريري لم يكن عملاً سهلاً.
2 – جسّد سعد الحريري في شخصه، كرئيس لوزراء لبنان:
– النسيج المميّز لعائلة الحريري سنياً ووطنياً.
– النوايا الايجابية والقلب الطيب في أبعادها الانسانية.
– الحرص الدائم، ورغم كل الظروف، على النسيج الوطني اللبناني بمختلف مكوناته العائلية والسياسية.
3 – هذه المميّزات تشكّل علامات مضيئة وإيجابية في جدول القيَم للعمل السياسي. ولكن هذه العلامات تشكّل لدى آخرين علامات صعبة ومتعبة ومعقّدة لمن يتعاطى العمل السياسي على الساحة اللبنانية مع كل ما فيها من نوايا وخبايا وتصورات تخييلية خادعة وتداخلات وتدخّلات اقليمية ودولية في النسيج الداخلي اللبناني ولدى عائلة الحريري بالذات من دول عربية مؤثرة: سياسياً وعائلياً ومالياً في لبنان الدولة والنسيج العائلي لبعض العائلات اللبنانية.
4 – لقد استمع اللبنانيون الى الرئيس سعد الحريري شارحاً ومعدّداً الأسباب التي جعلته يعتكف عن العمل السياسي. كما استمعوا الى شقيقه الأكبر بهاء الحريري يؤكد استمرار العائلة، من خلاله، في العمل السياسي. هذا التعارض في الممارسة السياسية فتح وسيفتح أبوابًا واسعة امام «المجتهدين» لبث الفرقة والذهاب بعيداً في الاجتهادات والاحتمالات.
نحن بكل تواضع واحترام نأمل ان يتم التعاطي مع هذا الموضوع باحترام تام للخصوصيات العائلية. ومن ضمن معيارين :
• المحبة لكل منهما ولعائلاتهما.
• والخير لكل منهما ولعائلاتهما.
ذلك ان الاخلاقية السياسية لا بدّ وأن تفرض نفسها بالمحبة والخير على بعض مفارق التاريخ الصعبة في حياة العائلات والجماعات والأمم.
***
أخيراً: ما هو المطلوب الآن خدمة لعائلة الحريري تحديداً ولتيار المستقبل تخصيصاً، ولأهل السنّة في لبنان تعميماً وللبنان جملةً.
المطلوب الأول والأساس، كان ولا يزال، ما نصحنا به بعد استشهاد رفيق الحريري وهو: تشكيل لجنة من كبار المفكّرين العقائديين سنّة وغيرهم، لوضع برنامج عقائدي استراتيجي لتيار المستقبل يشكّل القاعدة والمعيار والأهداف والأساليب لعمل التيار في مختلف مجالات العمل الوطني. وتأكيداً لجديّة الطرح وأهميتّه وواقعيته فقد اقترحت آنذاك بعض الأسماء أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر الدكتور رضوان السيّد.
المشكلة العامة لدى أهل السنّة، أنهم لا يعطون الأهميّة اللازمة للدور الفكري العقائدي في الممارسة السياسية. وهو ما يعطيه الشيعة أهميّة استثنائية ويشكّل بالتالي سبباً رئيسياً في نجاحهم. وهذه الفجوة جعلتهم، وتجعلهم عرضة للاختراق والإستضعافّ واهتمام الرئيس نجيب ميقاتي بموضوع «الوسطيّة» في الفكر الاسلامي مبادرة لافتة ولكنها غير كافيةّ.