Site icon IMLebanon

عن الحراك السعودي ورفيق الحريري!

 

 

 

«وَلَولا سِناني وَالحُسامُ وَهِمَّتي
لَما ذُكِرَت عَبسٌ وَلا نالَها فَخرُ
بَنَيتُ لَهُم بَيتًا رَفيعًا مِنَ العُلا
تَخُرُّ لَهُ الجَوزاءُ وَالفَرغُ وَالغَفرُ
وَها قَد رَحَلتُ اليَومَ عَنهُم وَأَمرُنا
إِلى مَن لَهُ في خَلقِهِ النَهيُ وَالأَمرُ
سَيَذكُرُني قَومي إِذا الخَيلُ أَقبَلَت
وَفي اللَيلَةِ الظَلماءِ يُفتَقَدُ البَدرُ»

القصيدة منسوبة إلى عنترة العبسي، كما أنّ البيت الأخير يتطابق مع بيت لأبي فراس الحمداني في «أراك عصي الدمع» هو «سيذكرني قومي إذا جدّ جّدهم وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر». قناعتي بأنّ قصيدة العبسي نُظّمت في العهد العباسي، تتطابق مع دراسات كثيرة حول حقيقة الشعر الجاهلي، وأول من بحث في الأمر بشكل منهجي كان «طه حسين» في كتاب «في الشعر الجاهلي» المثير للجدل. لكن، لو أمعنا البحث في محتوى القصيدة، لكان من المنطقي الاستنتاج بأنّها أتت بعد ظهور الإسلام وليس قبله. ولكن، ليس هذا موضوع البحث!

لم يترك سقراط أثرًا مؤكّدًا له، بالرغم من أنّ اسمه يتردّد على ألسن النخب الفكرية والشعبية منذ قرون طويلة. فكل ما سمعناه وقرأناه عنه أتى من خلال كتابات تلميذه النجيب أفلاطون، وهو الذي بنى فلسفته العظيمة على فرضية أنّ مصدرها هو سقراط. بالمحصلة، فهناك اليوم من يظن أنّ سقراط ذاته، أو كما حكاه أفلاطون، هو إما شخصية حقيقية بنى عليها أفلاطون روايته بتصرّف، كما يحدث في الروايات التي تستخدم اسمًا لشخصية تاريخية معروفة لبطولة روايتها، وإما أنّه شخصية تمّ اختراعها بشكل شبه كامل، ليبني عليها أفلاطون روايته الفلسفية. من هنا، فقد تكون فرضية الاستشهاد بشرب السم هي أيضًا مسألة وُضعت لإعطاء البطل مشروعية الشهادة، بالإضافة إلى إضفاء نوع من الدراما على المشهدية. أنا أميل إلى الفرضية الأولى، بالرغم من الغموض الذي يعتريها، فلا بأس في الاقتناع بأنّ هناك أناسًا يمكنهم تحدّي رهاب الغوغاء الشعبوية المستندة إلى الإجماع أو الأكثرية من الناس، فالإجماع قد يعطي الشر والخطأ وحتى الفساد، مشروعية تسحق الخير والصواب ونظافة الكف، لمجرد احتساب الأعداد.

من هنا، كانت عداوة الثلاثي الفلسفي الذهبي اليوناني للديموقراطية، لأنّها بمجرد اعتبار الناس مجرد أعداد، مما يجعل من الحكيم يساوي التاجر في قيمة رأيه… هذا بالواقع ما أصبح العالم اليوم يدركه بشكل واضح، بعد قرنين تقريبًا من المديح المبالغ فيه لرأي الشعوب وقرار الجموع في تقرير المصير، ومن ثم الثناء على دور الديموقراطية في تأمين وصول صوت الشعب إلى الحكم، وعن قدرة هذا الخيار على تأمين الاستقرار وتداول السلطات. لكن، ومنذ البدايات، تبيّنت خطورة الاعتماد المطلق على رأي الأكثرية، حتى وإن أتى في انتخابات شفافة وصحيحة ولا لبس فيها، ومن هنا التشديد على طول عمر الدساتير بالمقارنة مع عمر الحاكم. فهتلر مثلًا ربح حزبه الانتخابات في ألمانيا بثلث أعضاء البرلمان، ومن ثم توجّه الشعب، المأخوذ بأوهام العظمة، مرشدًا أعلى «كامل الشرائط» على الرايخ الثالث، رغم ضحالة فكره، في بلد أنتج أعظم حكماء التاريخ القريب، من فلاسفة ومشرّعين وشعراء وأدباء. وإن قلنا إنّ ظروف ألمانيا كانت مختلفة عن العالم اليوم، فانتخاب أمريكا لدونالد ترامب ما زال ماثلًا أمامنا. وإنّ الوضع في الولايات المتحدة يختلف عن عراقة فكر وتجربة القارة العجوز، فلنرى ما حدث ويحدث في الانتخابات الأوروبية بشكل عام، حيث حلّ الاستنكاف مكان المشاركة، وغابت البرامج الجذابة والشعارات الجميلة، وعاد الحكم في يد أقلية غوغائية من الناس بحكم الديموقراطية…

ماذا يعني كل ما سبق؟ ما أعنيه هو أنّ حكم الشعب بالأكثرية ليس بالضرورة هو الوسيلة الوحيدة لتأمين الاستقرار والسعادة للناس، وقد تتكون خيارات أخرى أكثر إسعادًا من غيرها، طالما أنّ التوازن والحكمة هما أدوات الحاكم. فهل من الممكن أن يمنّ الدهر على الناس بحاكم حكيم ومتوازن؟ حسب أرسطو، فإنّ الحكمة تقاس بالتوازن بين نقيضين أو طرفين، أو ما يسمّيه «الوسط الذهبي». هذا الوسط الذهبي ليس تمامًا في الوسط حسب القياسات العلمية، بل هو أخذ الخيار المناسب في الوقت المناسب، بناءً على المعطيات الموجودة في كل حال على حدة.

أعتذر من جديد على كثرة الاستطراد بالحديث، لكنني، بعد البحث، ارتأيت أن أعمل على التخفيف من عبء البديهيات الآتية من معطيات غير دقيقة، فكان من واجبي إيضاحها للوصول إلى الاستنتاجات التي أطرحها، ولكن ليس كحقائق مطلقة، بل كتساؤلات للتفكير بها. فليس الهدف هو افتراض أجوبة نهائية أو حلول جذرية، بل الهدف هو إدخال ما هو بديهي في دائرة المساءلة، فالمساءلة والتساؤل هما كما سمّاها هيدغر «تقى الفكر».

لكن، لماذا هذا الكلام؟ فمنذ أيام، تذكّرت رفيق الحريري أمام مشهد اللقاءات والقمم التي جمعت قادة المنطقة من الدول السنّية، أو ما يصح تسمّيته بدول الاعتدال، بمبادرة من الأمير محمد بن سلمان. هذه الدول هي التي تسعى لوسط ذهبي هدفه تأمين أكبر قدر من الاستقرار والسعادة للناس. تذكرت رفيق الحريري لأنّه كان هو المنوط به دور وزير الخارجية المتنقل لدول الاعتدال تلك، يوم كان كالمكوك يجوب عواصم تلك الدول للجمع في ما بينها على مصالحها المشتركة، وحلّ ما يمكن من إشكالات كانت تفرّق بينها. كان ذلك الدور أكثر وضوحًا إثر اعتداء برجي نيويورك، يوم أصبحت الولايات المتحدة جاهزة لتسليم المنطقة لإيران، كمكسب جانبي لولاية الفقيه، إثر عمى ثورة الانتقام التي شنّها جورج بوش، معتبرًا أنّ كل المسلمين السنّة في العالم هم الذين تحدّوا وأهانوا أقوى بلد في العالم في عقر داره. حسب قناعتي، فقد كان هذا الدور بالذات هو الذي تسبب باغتيال رفيق الحريري. فقد كانت إيران ولاية الفقيه، تستند أولًا على تفرقة وتشعّب اهتمامات كل دولة من دول المنطقة، مما سمح لها بالتسلّل دون رادع، إلى أن أصبحت متملكة لمفاصل الحل والربط، فارضة نفسها كدولة كبرى يحق لها فرض ما تريده من خلال قدراتها الكبيرة على الأذية.

على الرغم من أنّ رفيق الحريري أصبح رئيسًا للوزراء في لبنان مستندًا إلى اللعبة التي نسمّيها ديموقراطية، وهي بالواقع لا يمكن تسميتها بأي اسم، لكنه لم ير جدوى في دعوة أي من الدول التي كان يسعى باسمها إلى تقليد التجربة الديموقراطية، لا على طريقة أوروبا ولا أمريكا، وبالتأكيد ليس على طريقة الفتوش اللبنانية. هو كان مقتنعًا بأنّ وسيلة الحكم هي إسعاد الناس وتأمين حفظ كرامتهم من خلال الرزق والاستقرار، فكانت وصيته لحفيده «قل يا حسام أنا أكره الحرب».

الأمل اليوم هو أن توفّق مساعي توحيد المنطقة في وجه احتمالات الحرب من خلال أنّ دولها، بغض النظر عن أساليب حكمها، ليست لقمة سائغة لا لمشاريع إيران ولا إسرائيل ولا حتى الدول الكبرى. أذكر رفيق الحريري هنا لأنّه لو كان على قيد الحياة، لكان لبنان في قلب الحدث والحديث، بدل أن يكون مجرد هامش عابر بين هوامش.