Site icon IMLebanon

في ذكرى استشهاد الحريري.. لم نلتقِ في موعدنا عند الساعة الواحدة من ١٤ شباط

 

 

كان لقائي الأول مع الرئيس رفيق الحريري في مكتبه  – دارة قريطم في يوم من صيف 1998. أبلغني العقيد غسان بلعة – الضابط في مكتبه  بذلك الحين – أن مدة موعدي هي ربع ساعة. كان موضوع اللقاء هو تقديم كتابي الخامس الأخير له وشرح اهمية الاعلام اللبناني في بناء انسان ما بعد الحرب والدور الذي يمكن أن تقوم به الدولة ووزاراتها المعنية، والتطرق الى البُعد القانوني الدولي الانساني لتفاهم نيسان 1996 الذي كتبتُ عنه بحثاً علمياً.

سألني الحريري بعد السلام عليه: منين حضرتك كولونيل؟ أجبته أنني من قضاء جبيل – قرية علمات وبأن العائلة نزحت الى برج البراجنة من اجل لقمة العيش. سألني:اذن أنت تعبتَ من أجل متابعة الدراسة في ظل ضيق ذات اليد للعائلة؟ أجبته متطرّقاً الى معاناتي الصعبة شارحاً بإيجاز جهودي ومعاناتي ، وأنني بدأتُ العمل بعمر 12 سنة لمساعدة الوالد في تأمين المعيشة والكتب المدرسية والقرطاسية. فجأة لمحتُ بسمةً على محيّاه وفي عينيه بريقاً محبّباً وانطلق كطفلٍ صغيرٍ يتحدّث باسهاب عن معاناته في صباه وعن تفاصيل عمله في البساتين وزوّادته من والدته وأمورٍ شخصية أخرى. تحدّث وعرّفني عن نفسه أكثر مما تحدّثتُ أنا، وعلمتُ منه أن فخره بمعاناته هو ميزته الأخلاقية، فقلتُ له : وأنا أيضاً أفخر بعائلتي وعملي. لقد فوجئت بالجو الوجداني المحبّب بيني وبينه، فشعرتُ بفخر مجالسته،كان يفخر بماضيه وأنا ايضا.

 

مهما كانت نظرة المكونات السياسية في لبنان الى المسؤوليات الايجابية أو السلبية  للشهيد رفيق الحريري عن الوضع الحالي،فمن واجبنا في ذكرى استشهاده ان نقول ونؤكّد أنه كانت لديه الإرادة الطيبة والصادقة لسلوك نهج الحوار وفكر الاعتدال من أجل بناء دولة قوية، وقد لمست شخصياً هذه النيّة منه في آخر لقاء معه يوم عيد الأضحى 2004 .

تعمّقت الثقة بيننا وأخذت بعدها الاجتماعي اللطيف والمحبّب دون اية أبعاد أخرى،أزوره في الأعياد الوطنية والدينية، ثم بعدها الثقافي بعدما اصدرتُ مؤلّفي الخامس بعنوان «العنف المفرط» الذي تحدثتُ فيه عن «تفاهم نيسان» كشهادة وحدة وطنية، وشرحتُ فيه حيثيات هذا التفاهم وأبعاده واصفاً فيه الحريري بأنه «عرّاب التفاهم» الذي كان المحطة الهامة التي دفعت قطار المقاومة محصّناً بالشرعية الدولية تحت مظلة دبلوماسية تقضي باحترام القانون الدولي الانساني المطبّق في حالات مقاومة الشعوب للإحتلال، المحطة التي كانت المدخل الواسع للتحرير في 25  أيار عام 2000

 

لقد إتصفت مواقفي في مديح رفيق الحريري بالجرأة في حينه لأن التجاذبات السياسية التي عُرِفت بـ «سين-سين!» كانت «تطحن!» الأقربين والأبعدين من الطرفين دون ضمير أو منطق او عدل أو وجدان، فلم أخشَ ذلك «التطاحن!» الأرعن. ان مواقفي البحثية الموضوعية حول الدور الرئيسي الذي أدّاه الحريري في وضع تفاهم نيسان – والذي أكّده لي شخصياً الوزير غسان سلامة عندما التقيته في وزارة الثقافة – هي التي جعلت الحريري يبادر الى المشاركة شخصياً في حضور الندوة الدولية حول مؤلفي السادس «قانون النزاعات المسلحة – دليل الرئيس والقائد» في نقابة الصحافة في بيروت في 8 كانون الثاني 2004  رغم ان المناسبة لم تكن برعايته، ممّا يدلّ على تقديره لمضمون ما كتبناه في مؤلفاتنا حول الاعلام وأهمية دوره في صناعة ثقافة الحوار وفكر الاعتدال من أجل بناء الدولة، وكذلك حول تفاهم نيسان ودوره الاستراتيجي في اظهار حق لبنان بحمل البندقية بيد والقانون الدولي الانساني باليد الأخرى..مع الإشارة الى أن رفيق الحريري وطيلة وجوده في سدة الحكم شارك بحضوره الشخصي في مناسبات ثقافية محدودة العدد ومن ضمنها مناسبة اصدار مؤلفنا هذا حول القانون الدولي الانساني، مما يدل على اهتمامه بمفاهيم الحوار والاعتدال ودور الشرعية الدولية.

وتتابعَتْ اللقاءات ذات البعد الاجتماعي-الثقافي متباعدةً مع الحريري، وآخر موعد للقائه أُعطيَ لي من قبل مكتبه كان عند الساعة الواحدة بعد الظهر من يوم إستشهاده حين أبلغني مستشاره  الدكتور محمد السماك في 13 شباط 2005 ان أبقى «على السمع» في هذا التوقيت في منزلي القريب من «دارة قريطم» كي أذهب الى اللقاء فور الإتصال بي،لكن اغتياله الاجرامي عند الساعة الواحدة الا خمس دقائق ألغى موعدنا ولم نلتقِ..حزن عميق أشعر به كلما أفكر أنه كان في طريقه الى موعد لقائنا رحمه الله وغفر له.

إننا اذ نكتب ما تقدّم وفاءً للرجل الذي عمل في فكر الحوار والاعتدال من أجل بناء الدولة .

(*) رئيس المركز الدولي للدراسات الاستراتيجية والاعلام

أستاذ جامعي

عميد ركن سابق