IMLebanon

رفيق الحريري والثورة الهادئة (1)

«لعله إن بدا فضلي ونقصهم لعينه نام عنهم أو تنبه لي أعلل النفس بالآمال أرقبها ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل» (لامية العجم للطغرائي)

يقول الباحث الاقتصادي «جايمس روبنسون» إن المكونين الأساسيين لتقدم الأمم هما وجود سلطة مركزية قادرة على فرض القوانين تكون هي نفسها خاضعة للرقابة، وإشراك أكبر شريحة من المواطنين في بناء الاقتصاد وجني فوائده.

ويقول الباحث أيضاً إن منعطفات تاريخية قد تدفع الأمم إلى تسويات بين مكوناتها قد تؤدي إلى النمو والرفاه إن ذهبت بالاتجاه الصحيح، أو تؤدي إلى استمرار التقهقر في الأوضاع الاقتصادية والإنسانية إذا لم تؤخذ الخطوات المناسبة للإصلاح.

بخصوص السلطة، من المنطقي اعتبار أن الحكم الديموقراطي وتداول السلطات السلمي والقوى المسلحة الخاضعة لقرار موحد وخضوع الجميع من حاكم ومحكوم لسلطة القانون، هي الصفات الأهم لاستقرار الحكم وتفادي الجنوح نحو الفوضى.

أما عن مشاركة الناس في الاقتصاد فهي تعتمد على معطيات متعددة تأتي في أولها ثقة المواطن بالقانون وبعدم استنسابية تطبيقية، وقدرته على المبادرة والإنتاج من دون أن يسلب منه تعبه، وأن تكون فرص التعلم والتطور مفتوحة أمامه، وأن يكون مبدأ الجدارة والتنافس في الجهد المعيارين الأساسيين في الترقي.

وهنا يدخل عنصر ثالث عنوانه «التدمير الإبداعي» أي المنافسة الحرّة التي تؤدي إلى خسارة البعض لنفوذهم وفوائدهم من الوضع القديم القائم، مقابل بروز قوى جديدة على الساحة لتجديد النخب. وهكذا تدخل هذه النخب في التنافس مع نخب جديدة في الحاضر والمستقبل.

هنا يكمن بيت القصيد، فإما أن تصمد أو تنتصر القوى القديمة محاولة أن تؤيد نفسها، فتبدأ المسيرة الانحدارية للأمة، أو أن تخضع أو تنهزم أمام الوضع الجديد فتنفتح الآفاق نحو المستقبل.

أما عن المنعطفات التاريخية فقد تكون كوارث طبيعية أو بيئية أو صحية، أو أن تكون ثورات وحروب واكتشافات جديدة.

المنعطف التاريخي الأول في لبنان بعد الاستقلال كان في حرب التي أدّت إلى انتخاب الرئيس فؤاد شهاب الذي كان كما بدا واعياً لضرورة تجديد النخب في لبنان والدفع في الوقت نفسه إلى توسيع قاعدة الكسب لتطال أكبر شريحة من المواطنين.

بطبيعة الحال فقد دخل الرئيس في مواجهة صامتة مع الحرس السياسي الطائفي القديم، ومع ذلك تمكن من إرساء الكثير من المؤسسات التي هدفت إلى تطوير الاقتصاد وإشراك أوسع شريحة من المواطنين في الإفادة منه. 

أتى المنعطف الثاني سنة عند محاولة الانقلاب الفاشلة للحزب «السوري القومي الاجتماعي»، وهنا أصبح المكتب الثاني الحاكم الفعلي. صحيح أن ذلك الحدث دعم مركزية الحكم، ولكنه دعم قوى سياسية واقتصادية في مواجهة أخرى، وأعاد إنتاج وتعويم النخب القديمة أو على الأقل جزء منها.

الانعطاف الثالث أتى مع اتفاق القاهرة سنة الذي قوّض ركن الدولة المركزية المحتكرة لاستعمال السلاح من خلال تشريع المقاومة في بعض الأراضي اللبنانية. كان ذلك تمهيداً لتدهور الأوضاع بشكل سريع على مدى ست سنوات في اتجاه المزيد من فقدان السيادة بعد أن تفشت ظاهرة الميليشيات المسلحة يميناً ويساراً.

المنعطف الرابع كان الحرب الأهلية سنة والتي استمرت عقداً ونصف العقد حدثت فيها تغييرات واسعة في مختلف البنى الأساسية.

في العام أتى منعطف أساسي جديد وهو دخول رفيق الحريري الحياة العامة في لبنان من خلال مشروع ظاهره خيري، لكن آثاره كانت كبيرة على تغيير بنية اجتماعية اقتصادية مزمنة كان بعضها أساس الحربين الأهليتين، وهي التفاوت الكبير في المستوى التعليمي بين الفئات الطائفية المكونة للشعب اللبناني.

الفلسفة الأساسية هي أن التعليم هو المدخل الأهم لتحسين الفرص الاقتصادية للأفراد، وبالتالي فإن تحسن الوضع الاقتصادي لفئات محرومة سيخفف من أسباب التوتر الاجتماعي مما يؤمن الاستقرار الوطني. 

من ناحية ثانية فقد كان الرئيس الشهيد يرى أن نهاية الحرب الأهلية لا بد قادمة مما يعني الحاجة إلى نخب جاهزة لقيادة مرحلة السلام.

ترافق ذلك كله مع السعي الحثيث إلى وقف الحرب الأهلية والمبادرات المتعددة للوصول إلى تسوية تعيد تركيب الدولة بالمعطيات الممكنة.

الانعطاف التالي كان اتفاق الطائف الذي أنهى ذلك الفصل الطويل من الحرب الأهلية، ولكنه لم يعد السلطة إلى مركزيتها إلا بشكل هامشي لبقاء ميليشيا حزب الله على سلاحها وحرية حركتها من جهة، ولممارسة النظام السوري سلطة الوصاية على معظم الخيارات السياسية والأمنية، وبالتالي الاقتصادية والاجتماعية.

هنا بدأ الفصل الثاني من ثورة الحريري الهادئة والبقية تتبع. 

() عضو المكتب السياسي في تيار «المستقبل