«صحيح إنو الحريري رح يجيب الكهربا بالبواخر؟ الجيران سمعوا الخبرية.. إن شاء الله تكون صحيحة وشوف الكهرباء قبل ما موت». هذا فحوى الاتصال العاجل الذي وَرَدني من والدتي صباح 1 تشرين الثاني 1992 بعد يوم فقط من تكليف رفيق الحريري تشكيل حكومته الأولى. وهذا غيض من فيض الآمال التي علّقها اللبنانيون على ذاك الرجل منذ اللحظة الأولى لوصوله إلى السلطة.
لم يَخِبْ أمل أمي مع عودة الكهرباء 24 على 24 ساعة قبل أن ترحل.. وقبل أن يعود «التيار» لينتكس بعد رحيل الحريري.
لم يكن ذلك الأمل، الأول أو الأخير، الذي ضخّه رفيق الحريري في مخيّلة اللبنانيين وعلى أرض الواقع، وإنما أضاف إليه كمّاً من الأحلام التي أبصرت النور، تماماً كما كان حقّق فائضاً منها قبل وصوله إلى السلطة، منذ أن أنعم الله عليه بالجرعة الأولى من الثروة التي بالكاد كانت كافية لإعادة بناء مدرسة «فيصل الأول» في صيدا (شبه المجانية) التي تعلّم فيها هو وشقيقه شفيق الذي يصغره سناً عاماً ونصف العام وبقي قريباً منه أكثر من عقدين من الزمن: «كان ذلك وفاء منه لمدرسته ومدينته، وبسبب إيمانه بأهمية العلم الذي اكتسبه من المرحومة الوالدة، التي كانت تردّد أمامنا دائماً «لا شيء لدينا نورثكم إياه إلا العلم»، حتى إذا تزوّج رفيق فقدت صوابها لأنه أقدم على هذه الخطوة قبل استكمال دروسه الجامعية».
تفوُّق رفيق في صفّه أتاح له الحصول على منحة لمتابعة تعليمه المتوسط في «المقاصد».. فقدّمها (لاحقاً) لأربعين ألف طالب تلقّوا الدروس الجامعية في 1766 جامعة ومعهداً في أميركا وكندا وأوروبا وشمال أفريقيا ودول عربية ولبنان، بينهم 853 من حَمَلَة الدكتوراه و1813 طبيباً متخصّصاً و1829 من حَمَلَة الماجستير و24227 من حَمَلَة الإجازة الجامعية وغيرهم (بحسب إحصاءات مؤسسة الحريري التعليمية الجامعية).
كل هؤلاء الطلاب نالوا شهاداتهم من جامعات أرقى بكثير من تلك التي تلقّى رفيق الحريري نفسه دروسه فيها، حتى أن بعضهم أنجز دراسته في الجامعة نفسها التي درس فيها أبناؤه («جورج تاون» في واشنطن).
«لم تكن أحلامه كبيرة في طفولته»، على ما يقول شفيق، بسبب انسداد الآفاق والظروف الاجتماعية العائلية الصعبة «ما كان يضطّرنا إلى ارتداء ملابسنا نفسها في أكثر من عيد». لكن أحلامه كبرت مع تحسّن ظروفه المادية، فلم يكتفِ بإطلاق مؤسسة المنح التعليمية (عام 1979) وحسب، وإنما وضع في مطلع الثمانينات الحجر الأساس لمشروع مجمّع كفرفالوس الذي اعتبر في ذلك الحين المشروع الأهم ليس في لبنان وحسب، وإنما في المنطقة.
بدأ تنفيذ هذا المشروع في عزّ الحرب الأهلية، ورغم الضربات المتتالية له وعمليات النهب والسرقة، واجه رفيق الحريري الضربة تلو الأخرى، حتى تلقى الضربة الأكبر العام 1985، على ما يقول الدكتور نزيه الحريري: «كان يفترض أن ينجز المشروع في تموز 1982، فوقع الاجتياح الإسرائيلي قبل شهرين من موعد الإنجاز. ثم استؤنف العمل حتى استكمل الجزء الأول من المشروع في 1983، أي المستشفى الذي كان يرغب الحريري أن يكون أهم مستشفى في العالم، ومدرسة التمريض. ثم أنشئت جامعة (مركز صيدا للدراسات) تم ربطها أكاديمياً بالجامعة اليسوعية». ويتابع نزيه مبتسماً: «كنت برفقته على طريق الروشة فبادرني بالسؤال: في مجنون غيري يا نزيه بيدفع 200 مليون دولار على مشروع بكفرفالوس على بعد أمتار من مواقع الاحتلال الاسرائيلي؟».
هذا «الجنون» الذي دفع رفيق الحريري إلى خوض غمار مشروع توقّف بعد أقل من ثلاث سنوات على انطلاقه، تكرّر مراراً وتكراراً في مسيرته التي تمدّدت إلى العاصمة بيروت بعد اجتياحها من قبل القوات الإسرائيلية العام 1982.
ملأت آليات شركة «أوجيه» وجرافاتها العاصمة وشغلت الناس، لتمحو وبسرعة آثار الاجتياح من بيروت. لم يكن ذلك حرصاً من الحريري على نظافة العاصمة وحسب، وإنما إيماناً منه بأن إسرائيل عدو، وانسجاماً مع تجربة خاضها في مدارس صيدا وشوارعها القريبة جداً من فلسطين، في صفوف «حركة القوميين العرب».
هذا جزء من مزاج «المقاصد» ومدينة صيدا والجنوب عموماً. وفي هذا المناخ تفتّح وعي الحريري، على حد تعبير صديقه عدنان الزيباوي: «العام 1948، أي عام النكبة، كان عمر رفيق الحريري 4 سنوات (من مواليد 1944)، أي أن النكبة حضرت في ذاكرته ووعيه. والفلسطينيون الذين تشرّدوا في ذلك الحين لم يأتوا إلى مخيم عين الحلوة وحسب، وإنما إلى المدينة ككل، تماماً كما حضروا إلى مناطق كثيرة من لبنان».
في السادسة عشرة من عمره بدأ رفيق يقترب أكثر فأكثر من العمل الحزبي المنظم. قرأ جيداً ساطع الحصري وأوتو فون بسمارك. كما بدأ تنفيذ مهمات علنية وسرية مثل توزيع منشورات حزبية أو تهريبها، وتنظيم تظاهرات ونقاشات. لكن محطة الانفصال (سوريا ومصر) شكّلت، بحسب الزيباوي، حالة إحباط لدى رفيق «فتفرّغ لحياته الخاصة، وذهب إلى مصر لينال «التوجيهية» ومن ثم عاد إلى لبنان ليلتحق بالجامعة العربية في بيروت وليعمل في «دار الصياد»، وينغمس في مسؤوليات عائلية قادته إلى المملكة العربية السعودية (بفضل إعلان قرأه في إحدى الصحف) لتفتح أمامه قصة نجاح سرعان ما شعر اللبنانيون أنهم شركاء فيه.
«رحلة» إنهاء الحرب
انتقاله إلى ضفّة رجال الأعمال الناجحين، برعاية من الأمير فهد بن عبدالعزيز (ولي العهد آنذاك)، أتاح له العودة إلى الاهتمام بشؤون الوطن وشجونه، لكن من باب أوسع هذه المرة عنوانه السعي إلى إنهاء الحرب في لبنان.
أمضى رفيق الحريري نحو عقد كامل (منذ 1981 حتى 1989) باحثاً عن سبل إنهاء الحرب، وشريكاً في كل المشاريع والمؤتمرات التي عقدت لهذه الغاية. كان اجتياح 1982 ومن ثم اتفاق 17 أيار اللبناني الإسرائيلي مقدّمتين كافيتين لانفجار ما سمّي لاحقاً «حرب الجبل»، وسببين بديهيين ليحرّك الحريري طائرته، مدعوماً من القيادة السعودية، ويتجوّل بين بعبدا ودمشق والرياض… لمنع الانفجار.
كان خبر هبوط طائرته في مطار بيروت، الذي كان متداولاً في الصحافة اللبنانية في تلك الفترة، يشي بتحرك أو مسعى سعودي حميد يمنع الانهيار، كما أن حضوره إلى لبنان كان يطمئن اللبنانيين ولو لفترات قصيرة إذ كان يسبقه قرار لوقف إطلاق النار لتمكينه من التنقّل بين بعبدا وبيروت ودمشق. لم يكن لبنان يتحمّل اتفاق سلام منفرد مع إسرائيل، كما لم يكن يحتمل تداعيات مثل هذا الاتفاق وسط انقسام وطني عمودي ينذر بمزيد من التدهور. فعمل الحريري منذ صيف 1983 على خطّين: إقناع رئيس الجمهورية أمين الجميّل بإلغاء اتفاق 17 أيار، والسعي مع الأخير من جهة ومع القيادة السورية وحلفائها في لبنان من جهة ثانية، الى عقد مؤتمر سلام في جنيف برعاية المملكة العربية السعودية.
حراك الحريري هذا كان بداية حوار بين بعبدا ودمشق كما يقول الرئيس الجميّل: «زارني والأمير بندر بن سلطان في القصر وعقدنا اجتماعاً مطوّلاً بحضور وزير الخارجية آنذاك إيلي سالم، وبدأنا تبادل الأفكار حول مؤتمر جنيف. في ذلك اللقاء اقترح الحريري إزالة الركام عن خط التماس الذي كان يفصل بين المنطقتين «الشرقية» و»الغربية»، وإعادة ترميم شارع المعرض وإعادة إظهار معالم قناطره. وأبلغني رفيق أن الملك فهد قدّم مبلغاً قيمته 50 مليون دولار لهذه الغاية، وقد نفّذ الحريري المشروع بنفسه».
يضيف الجميّل: «ثم عقدت اجتماعاً آخر مع الحريري في الجوّ، بحضور سالم أيضاً، حيث حالت أسباب تقنية دون هبوط طائرته في مطار قبرص، فعقدنا جلسة عمل «جوية» حيث بقيت الطائرة تحلّق بين أجواء بيروت وقبرص، وعكفنا على إعداد ورقة تفاهم مع القيادة السورية. كانت واحدة من مجموعة أوراق لوقف الحرب ومهّدت الطريق أمام مؤتمر جنيف، الذي شارك فيه الحريري شخصياً مع وزير سعودي، تماماً كما شارك في مؤتمر لوزان لاحقاً أيضاً».
لكن مؤتمر جنيف لم ينجح بالكامل، كما يقول النائب مروان حمادة، وإن فتح الباب أمام إلغاء 17 أيار لاحقاً لكنه لم ينجح في التوصل إلى اتفاق حول الإصلاحات الدستورية التي نوقشت من جديد في مؤتمر لوزان حيث تنقّل الحريري بين أجنحة المتحاورين ساعياً إلى توافق من دون جدوى.
هذا الفشل لم يمنعه من تكرار المحاولة مع أمراء الميليشيات، فكان اجتماع دوردان الذي عقده الحريري مع رئيس الهيئة التنفيذية في «القوات اللبنانية» آنذاك إيلي حبيقة، بحضور السفير السابق جوني عبده، فاتحاً بذلك الطريق أمام «الاتفاق الثلاثي» مع رئيس حركة «أمل» نبيه بري ورئيس الحزب «التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط. لكن إسقاط الرئيس الجميّل والدكتور سمير جعجع لهذا الاتفاق فتح الباب أمام وساطات أخرى أرادتها دمشق من خلال هاني سلام ثم مهدي التاجر، بموازاة أوراق جمعتها القائمة بأعمال السفارة الأميركية أبريل غلاسبي، لكنها أيضاً ذهبت سدًى، إلى أن جاء دور الطائف.
هذا المؤتمر الذي عقد في النصف الثاني من 1989 أنهى اثنين: الحرب والفراغ في موقع رئاسة الجمهورية الذي بقي شاغراً لمدة عام تقريباً، بعد جهود مضنية وحثيثة قامت بها دول وقوى وعواصم وأفراد يتقدّمهم رفيق الحريري، بعد أن تحوّلت طائرته ومكاتبه في الرياض وباريس ودمشق ومنزل صباح الحاج في فردان الذي كان ينزل فيه إلى مقارّ لجمع الملاحظات وجوجلة الأوراق المتعاقبة من «الوثيقة الدستورية» حتى «أوراق غلاسبي»، تمهيداً لصياغتها في مسودة واحدة سمّيت لاحقاً «وثيقة الوفاق الوطني».
طوى لبنان صفحة الحرب وتنفس اللبنانيون الصعداء، عاقدين الامل على عودة العافية الى مؤسساتهم الدستورية، والى «الدولة» التي غابت عنهم لعقد ونيف من الزمن، ما وضع لبنان على لائحة الدول الفاشلة. اطلق اللبنانيون العنان لأحلامهم بإعادة الإعمار واستعادة الاستقلال.
نظام اقتصادي حرّ لسوريا!
هذه «الآمال» سعى رفيق الحريري الى ترجمتها من بوابة سوريا، بداية، اعتقاداً منه بأن طمأنة سوريا تريح لبنان، وأن تطوير الاقتصاد السوري المترهل وتحويله الى نظام اقتصادي حرّ انما ينقل سوريا الى مصاف الدول المتطورة، وبالتالي يصبح نظامها اقرب الى النظام اللبناني «الحرّ« اصلاً. هو كان يعلم ان تطوير الاقتصاد السوري سوف يفتح الباب حكماً امام تطوير النظام السياسي ايضاً، كما كان يقول له صديقه (الرئيس) فؤاد السنيورة وهو ما كان من الصعب قبوله من جانب القيادة السورية. لكن الحريري حاول عساه ينجح في تحقيق خطوة الى الامام. وبالفعل أقنع الرئيس حافظ الأسد بالسماح لشركة مختصة القيام بمسح للاقتصاد السوري ووضع دراسة لتطويره، وهو كلف بهذه المهمة المثقف السوري الدكتور نبيل سكر، الذي يقول السنيورة انه كان «احد رفاقنا في شلة حركة القوميين العرب».
كان ذلك في العام 1987، أي قبل عامين تقريباً من إقرار اتفاق الطائف. أعدّ سكر الدراسة خلال ثلاثة أعوام. سمّاها «نحو اقتصاد اشتراكي متطور في القطر العربي السوري»، متعمداً استخدام مصطلح «اشتراكي» من اجل مساعدة النظام على هضم الدراسة رغم ذهابها باتجاه معاكس. قدم الحريري الدراسة كاملة الى الاسد، لكنها بقيت في احد ادراج «قصر المهاجرين» حتى اليوم بسبب خشية القيادة السورية من اي مساس بنظامها الاقتصادي، لما يمكن ان يخلفه من انعكاسات على النظام السياسي نفسه.
لكن الحريري الذي لم يُعرف عنه استسلامه لأية انتكاسة تواجهه، حاول في العام 1991 العودة الى هذا المشروع من بوابة اوسع، مفاتحاً النائب السابق باسم السبع في حوار ثنائي بينهما في الطائرة، بنيّته التحضير لمشروع «مارشال» دولي كبير لإعادة ترتيب الأوضاع الاقتصادية في أربع دول هي: لبنان وسوريا وفلسطين والاردن. اما الغاية من هذا المشروع فكانت «حماية لبنان» واخراجه من دائرة الصراع من اجل اعادة تأسيس نفسه، بموازاة اعادة تطوير اقتصادات الدول المحيطة. ولما سأله السبع: «كيف يمكن إخراج الجيش السوري من لبنان لتحقيق هذا المشروع؟«، قال الحريري: «في سوريا ازمة اقتصادية كبيرة، والنظام يتكبد مبالغ هائلة على جيشه، انا مستعد ان ادفع من مالي الخاص مليار دولار ثمن اتفاق مع حافظ الاسد لإخراج الجيش السوري من لبنان». كانت المرة الاولى التي يسمع فيها باسم السبع عبارة «خروج الجيش السوري من لبنان» على لسان رفيق الحريري.
إذًا أخطأ الحريري الحساب في مسألتين، احتمال قبول النظام السوري بتطوير اقتصاده، او احتمال قبوله بسحب جيشه من لبنان قبل استشهاد الحريري نفسه الذي فكر جدياً بهذا الخيار، تماماً كما اخطأ الرئيس رينيه معوض عندما فاتح المسؤولين السوريين (اثر انتخابه رئيساً) بتعيين الحريري رئيساً لحكومته الاولى، وهي النتيجة نفسها التي واجهها الرئيس الياس الهراوي ايضاً مرات متتالية، عندما تمنى على الرئيس حافظ الاسد القبول بالحريري رئيساً للحكومة، قبل ان يجيبه بعبارة واحدة «مو وقتو».
الاسد يوافق.. ولكن
لكن انهيار الليرة اللبنانية في ايار 1991، اثر «ثورة الدواليب» التي اطلقها اللبنانيون في وجه حكومة الرئيس عمر كرامي، أقلق النظام السوري من احتمال انتقال العدوى الى سوريا وانهيار عملتها، وهو الامر الذي لا يملك هذا النظام وسائل لمواجهته. فوافق الاسد على وصول الحريري الى السرايا الحكومية، وبدأت رحلة «الآمال« التي دشنها الحريري برفع الحظر العربي والدولي عن لبنان واطلاق ورشة الاعمار، و«الآلام« التي حاصرته من داخل الحدود وخارجها.
لم يكن الحريري واحداً من أبناء الطبقة السياسية، ولا يملك خبرة امراء الحرب والطوائف الذين تقاسموا السلطة. كان اول رمز للسلم الاهلي بعد انتهاء الحرب، وجد نفسه شريكاً وغريباً في لعبة يتقنها لاعبون كثر، فاصطدم بآليات الصراع على مواقع السلطة والادوار في حكومة مكونة من أجنحة متعددة نقلته الى صدامات مباشرة مع اطرافها، ما قاده الى الاعتكاف بعد اقل من عام على وصوله الى رئاسة الحكومة.
واذا كانت العقد المسيحية او الدرزية من النوع الذي كان يمكن التعامل معه باعتبارها ذات سقوف محلية بحتة في غالب الاحيان، الا ان العقد الشيعية كانت اصعب واكثر تعقيداً بسبب ارتباطها مباشرة بالنظام السوري بداية ومن ثم بالنظام الايراني لاحقاً. شهدت علاقة الحريري مع هذه العقدة مرحلتين: الاولى مع دخول حركة «امل» الى النظام اللبناني من البوابة السورية، وقد اقتصر على الجانب الاداري وحسب مع تمسكها بكل التعيينات الادارية التي شملت كل المواقع الشيعية في الادارة والامن. اما الثانية فتمثلت بدخول «حزب الله» الى النظام وانتقال اجهزة بالكامل الى معادلة سياسية امنية «حزب الله» شريك فيها بالتكامل مع النظامين السوري والايراني، وقد تكرست لاحقاً بنقل مديرية الامن العام من السلة المسيحية الى السلة الشيعية.
كان ذلك بعد «تفاهم نيسان» مباشرة الذي شرّع عمل المقاومة حيث بدأ نهوض الحزب في المعادلة الداخلية وصار شريكاً لحركة «امل» بتكوين الدور الشيعي داخل النظام الامني وتحويله من دور اداري الى آخر امني سياسي. بدأ الحديث منذ ذلك الوقت عن معادلات وخيارات اقليمية جديدة، فتح النظام السوري معها نافذة للخيار الايراني (بعد فشل مؤتمر مدريد للسلام) وبقيت مجرد نافذة حتى رحيل حافظ الاسد.
أما مع وصول بشار الى الحكم فقد شُرّعت الابواب لدور ايراني اكبر، وصارت المشكلة تتعلق بخيارات إقليمية تنامت حتى العام 2005، قبل أن تتحول الى صراع مذهبي لتنقل المعضلة الى مكان آخر تكشف مع اعلان المحكمة الدولية الخاصة بلبنان اسماء المتهمين باغتيال رفيق الحريري، وقبل ان يصبح الخليط القائم بين الخيارات الاقليمية والصراع المذهبي حقيقة ساطعة مع اخذ الحزب لبنان الى خيار اقليمي ذي طابع مذهبي، باعتبار ان ايران تشكل قاعدة مذهبية لإحدى الطوائف الاساسية اللبنانية، اي الطائفة الشيعية، التي اصبحت شريكاً اساسياً في مجموعة من الحروب الاهلية العربية عموماً، وفي الصراع الاهلي اللبناني في الحد الادنى.
رغم ذلك، ورغم فداحة هذه العقدة وامتداداتها الاقليمية، بقي الحريري يبحث عن سبل لمواجهتها، بما في ذلك لمشاريعه الاعمارية، حتى اذا اعترض «حزب الله» على ملف بالجملة لجأ الحريري الى حله بالمفرق، تماماً كما حصل مع المشاريع التي اقترحها للضاحية الجنوبية، والتي تعامل معها «حزب الله» بوصفها «خرقاً» سياسياً لمواقعه، فيما كان الحريري متمسكاً، مع اعادة اعمار العاصمة، بإعادة اعمار البنى التحتية لضاحيتيها «الشرقية» (ألينور) و»الجنوبية» (اليسار).
قدم عروضاً للحزب والحركة لإثبات حسن النية، مقترحاً ان يكون الطرفان شريكين في ادارة مشروع «أليسار»، فشاركا في مجلس الادارة وعطلا المشروع بالكامل، اعتقاداً منهما بأنه عبارة عن اجتياح للمناطق الشيعية ومحاولة لإعادة تكوين ديموغرافيا شيعية جديدة. توقف مشروع «أليسار» وكذلك مشروع جسر الاوزاعي، لكن الحريري بقي متمسكاً بمخططه للمنطقة فنفذ المشروع تلو الآخر «بالتقسيط«، رغم ما واجه كل مشروع، على حدة، من معضلات، ومن المفارقات انه تمكن من بناء اهم اربع منشآت اساسية في لبنان في مناطق ذات غالبية شيعية، يرفع اسمه الآن فوق معظمها: مستشفى الحريري الحكومي في بئر حسن، المدينة الرياضية، مجمع رفيق الحريري الجامعي (الحدث) ومطار رفيق الحريري.
ثمة خيط لم ينقطع منذ بداية حياته السياسية وحتى اغتياله، وهو إصراره على الانجاز وعلى إبقاء الامل حياً في قلوب اللبنانيين، رغم كل العراقيل التي واجهته منذ بداية مسيرته وحتى 14 شباط 2005، حتى اذا اكتمل الحصار المضروب من حوله بعد مؤتمر باريس-2 والتمديد للرئيس اميل لحود، عاد الى مربّعه الاول «استقلال القرار الوطني اللبناني» الذي مثل خطاً بيانياً بين لحظة دخوله الى العمل السياسي ولحظة اغتياله.
رغم ضعفه تجاه سوريا، من موقعه العروبي، كانت القاعدة الاساسية لكل علاقته بالنظام السوري وتطبيعها بين وقت وآخر كيف يحمي القرار الوطني اللبناني المستقل. اقام صداقات مع عدد من اركان النظام، نظم هدنات وتسويات مع اركان آخرين وفقاً للقاعدة نفسها. مواقع اساسية في النظام كانت تعلم تماماً نيات الحريري، مثل عبدالحليم خدام (نائب الرئيس سابقاً) الذي كان يؤيد وجهة نظره سواء اخبره الاخير بما يفكر به ام لا. وربما لهذا السبب كان يخشى عبدالحليم من عودة الحريري الى رئاسة الحكومة العام 1998 والعام 2000، كما نصحه بعدم ترؤس حكومة 2004.
لم تكن التسويات بالنسبة اليه، سواء مع اطراف لبنانيين او سوريين، عبارة عن ضعف او مساومة، بقدر ما كانت حماية للأولويات والانجازات التي تحققت على امتداد الجغرافيا اللبنانية، وللاستقرار السياسي والامني والنقدي، اي حماية القرار الوطني المستقل.. تماماً كما لم تكن المؤتمرات الاقتصادية التي نظمها في واشنطن (مؤتمر اصدقاء لبنان) ثم باريس-1 ومن ثم باريس-2، سوى متاريس اقتصادية للبنان تقيه من الحروب، وفي مقدمها الاعتداءات الاسرائيلية التي استؤنفت بعد عام من وصوله الى الحكم (1993) ثم في 1996 وفي 1999، وحققت اصابات مباشرة في بنى لبنان التحتية وفي اقتصاده ودَينه العام.
كان رفيق الحريري رجل إعمار وسلام. انهى الحرب الاهلية اللبنانية وبقي متمسكاً بالسلم الاهلي رغم انه واجه حروباً صغيرة وكبيرة استهدفته من الداخل ومن اسرائيل ومن سوريا كان بعضها يشن على مدار الساعة، خصوصاً في السنوات الاخيرة من حياته. ورغم ذلك كله بقي «بوليصة تأمين» بالنسبة الى كل اللبنانيين، بمن في ذلك من كانوا يدورون في فلك خصومه، لأنه بقي بالنسبة اليهم «حلال المشاكل» في وجه اي عقدة تواجههم مهما عظمت.
كان رفيق الحريري رجل استقلال بامتياز. لم يحد يوماً عن هذا الخيار حتى في عز تعامله الواقعي مع بعض الظروف الموضوعية. دشّن حياته السياسية بإلغاء اتفاق 17 ايار لمنع وصاية الاحتلال الاسرائيلي على لبنان، واختتمها بفرض انسحاب جيش الوصاية السورية من لبنان، مع فارق جسيم انه سدّد ثمن هذا الانسحاب من دمه.. بدلاً من جيبه كما اراد.