Site icon IMLebanon

«الخياط» رفيق الحريري

منذ أن أطل على مسرح الحياة الوطنية٬ قبل السياسية٬ في لبنان٬ كان رفيق الحريري خياط التسويات. من لوزان إلى الطائف٬ وبينهما الرياض ودمشق وبيروت وباريس وعواصم كثيرة. خياط من نوع نادر. في كل مدينة يعثر على خيط٬ وبيده إبرة الصبر والحكمة٬ يحيك بها نسيج التفاهمات والتسويات.

الخياط كان يعرف أن النهايات ليست جزًءا من طبيعة الحياة السياسية في لبنان. يعرف أن الأشخاص والزعامات والبيوتات والظواهر السياسة أكبر وأعقد من أن تسقط بالضربات القاضية.. أن الانتصار والهزيمة مؤقتان.

لم يكن جباًنا حين قبل التسوية مع إميل لحود ممًدا له على مضض كبير. لم يكن مستسلًما حين كبر قدرته على امتصاص السلوك السوري حيال لبنان واللبنانيين ووطنهم. لم يكن متناقًضا مع نفسه حين ابتكر معادلة التعايش بين الإعمار والمقاومة.

كان يعرف أن التسويات تعطيه الوقت. مات رفيق الحريري مصاًبا بمرض الوقت لا التسويات٬ وهذا فارق دقيق يلتبس على كثيرين. الوقت كي يعيد إعمار البلاد. الوقت كي يرمم المصالحات المبتورة. الوقت كي يعيد وصل ما انقطع حجًرا وبشًرا وبلاًدا. الوقت كي يبني ويعلم ويكِّبر ويعيد ابتكار لبنان من جديد.

آمن بحقيقة بسيطة في وطن الأوهام الكبرى والأحلام المستحيلة والمشاريع الانتحارية. الشيء الوحيد٬ والرئيسي٬ والمهم٬ والحقيقي٬ الذي يمكن الفوز به هو لبنان. إعادته إلى الحياة. إعادته إلى الخريطة. الفوز باقتصاده. الفوز بجامعاته. الفوز بسمعته. الفوز بعودة أهله إليه. الفوز بإعادة الأمل للبنانيين٬ مؤيدين وخصوًما٬ بأن لبنان بلد ممكن رغم كل شيء.

فهم حقيقة قاتلة.. أنه لا منتصر في لبنان ما لم يكن انتصاره هو الفوز بالبلد.. بنجاته.. بإخراجه من شباك الصائدين الكثر.

لم يؤمن يوًما بأن رفع الرايات على الركام انتصار. لم يؤمن يوًما بأن الرقص على الأنقاض انتصار. واجه كل عقل مسلح بـ«الباطون المسلح».. بالإعمار.

لأجل ذلك ظل رفيق الحريري أميًنا لمنطق التسوية. كل تنازل يصب في خانة تمتين البلد والدولة والنظام يستحيل مكسًبا في نظره.

كم يشبه اليوم ذاك الأمس. رشح رفيق الحريري سليمان فرنجية لإنقاذ البلاد من خيار التمديد لإميل لحود. اليوم يطرح سعد الحريري سليمان فرنجية لإنقاذ البلاد من خيار التمديد للفراغ المستمر منذ 25 مايو (أيار) 2014.

قبلاً٬ لم تسعف الأب حماقة بشار الأسد وحقده في المضي بالتسوية. بشار معقد من رفيق الحريري. لا يرى فيه إلا كل ما ينقصه من حضور وابتكار وحكاية وحيوية وسمعة. المعقد لا يؤمن إلا بمنطق الكسر والخلع حتى حدود الإلغاء. اليوم سليمان فرنجية مرة أخرى فيما الأسد على أهبة الخروج من سوريا. نعم٬ في الخيار هذا مغامرة. لكن سعد الحريري٬ كما أبيه٬ محكوم بالإقدام عليه بوصفه التسوية الممكنة٬ بعد عشر سنوات من التحول الكبير الذي أصاب وظيفة الحريرية السياسية. بعد عشر سنوات طويلة جًدا من الرهانات الكبرى٬ التي أملت نفسها على هذه المدرسة السياسية الوطنية كما على كل اللاعبين الرئيسيين في لبنان.

قلت في مقالة سابقة إن التسوية اليوم هي تسوية بين خاسَرين. لا نجح «14 آذار» في إسقاط الأسد٬ ولا نجح «8 آذار» في حمايته من السقوط. بين الاثنين سقطت سوريا وسقط معها الكثير من رهانات الطرفين. أما سلاح حزب الله فأدخل نفسه في أتون أدماه وأدمى أهله وبيئته أًيا يكن ارتفاع الأصوات المكابرة.

الحريرية لم تنُج هي الأخرى٬ بصفتها إعماًرا ونماًء ونهوًضا ومستقبلاً. نالها من الاستنزاف ما نالها لأسباب معقدة وكثيرة.

الخلط بين التسوية والاستسلام عرفناه قبلاً٬ وخبرنا نتائج الدفع باتجاه «العنتريات الريفية» على قاعدة «قلعة الوفا» و«حصن الصمود»! لكن الحقيقة أن كل فضيلة أُنتجت في لبنان أنتجها عقل التسوية٬ حتى بعد استشهاد الرئيس رفيق الحريري. التسوية هي التي سمحت في لحظة بالغة الخطورة بعقد الانتخابات النيابية عام 2005 وإعادة تكوين السلطة وفتح الباب أمام خوض معركة العدالة لرفيق الحريري من قلب الدولة. فكانت الانتخابات والحكومة ثم المحكمة الدولية.

ولو أن التسوية اليوم هي استسلام وهزيمة٬ لماذا لم يتلقف خصوم الحريري إقراره بالهزيمة؟ هذا سؤال على حلفاء سعد الحريري التفكير فيه قبل غيرهم٬ وتحديًدا الرفاق في «القوات اللبنانية».

يعود سعد الحريري إلى وظيفة أبيه. يعود إلى الأساس. بلا أوهام٬ وبأحلام على قياس البلد وكرامة ناسه. سعد الحريري 2016 غير ذاك الذي عبر في ثلاث مراحل على الأقل٬ تميزت في معظمها بأولوية العنوان الخارجي الكبير٬ من الاشتباك مع نظام الأسد إلى الاشتباك مع سلاح حزب الله بوصفه سلاح إيران إلى الانحياز للثورة السورية. اليوم يعود إلى الداخل٬ إلى القضايا الحقيقية للناس.. فرص العمل٬ الأمان٬ الخدمات الرئيسية من كهرباء ونفايات واتصالات ومواصلات.. إلى التسوية للنجاة ببقية البلاد.

كل على طريقته مزق الخيمة التي فوق لبنان٬ وجعل من قطعته شراًعا يبحر به بحسب ريحه. سعد الحريري يعود إلى الوظيفة الأولى. إلى الخياط الذي أورثه إبرة الصبر والحكمة ليخيط خيمة تحمي لبنان.