في انتظار قطار الحلّ… أين القطار اللبناني ومحطّاته؟
يتندّر اللبنانيون بوجود مصلحة لسكك الحديد في بلادهم من دون وجود للقطار ولا للسكة. لكن لو يدري اللبنانيون أن لبنان بين دول نادرة في العالم لا تملك سكك حديد أو أنهم ضيعوا على بلدهم فرصاً أقتصادية وسياحية كبرى بغيابها لما حولوا الأمر إلى مزحة. فالعالم يعتمد على القطارات كوسيلة أساسية لنقل الركاب والبضائع وكجزء من تطور البلدان ونموها. وحده لبنان تراجع إلى الوراء في هذا المضمار وبعد أن كان يمتلك شبكة من 403 كلم، ضاعت الشبكة وكل ما تحمله معها من إمكانيات.
محطات القطار في لبنان اليوم معالم تراثية مترهلة تقف شاهدة على زمن كان فيه لبنان يواكب عصره ويسبقه أحياناً فإذا به يصبح الى جانب رواندا وتونغا وبوسان في لائحة الدول التي تغيب عنها سكة حديد فاعلة. يسبقه ومن بعيد في المنطقة إيران ومصر وتركيا ومن بين الدول العربية تسبقه سوريا والعراق والمغرب بشبكات تقارب 2100 كلم هذا من دون الحديث عن السعودية التى تعمل على تطوير شبكاتها باستمرار ومثلها كل دول الخليج عدا الكويت. فهل لا تزال سكك الحديد في لبنان قابلة للعودة الى الحياة وتشكيل رافعة للاقتصاد اللبناني؟
تمتد خطوط سكك الحديد وفق ما يشرحه لنداء الوطن د. كارلوس نفاع رئيس جمعية تران تران ، من الناقورة جنوباً الى العبودية شمالاً على الحدود اللبنانية السورية مروراً بكل المدن الساحلية وتتصل من هناك بالخط التاريخي الذي كان يعرف بخط الحجاز داخل الجمهورية العربية السورية. وثمة خط آخر يتوجه من مرفأ بيروت صعوداً باتجاه عالية صوفر وشتورا ثم رياق ويكمل باتجاه سرغايا نحو دمشق عابراً السلسلة الشرقية. كما يتجه خط من رياق باتجاه بعلبك القاع نحو حمص. 403 كيلومترات ترتبط بنحو 48 محطة منها صغيرة مثل محطات بعبدا او الجمهور وصوفر وشتورا ومحطات استراتيجية كبيرة مثل محطة مار مخايل التي تمتد على مساحة 50000 متر مربع في قلب بيروت ومحطة تعرف بـ NBT أي بيروت ناقورة وطرابلس مساحتها 250000 متر مربع وهي محاذية لنهر بيروت وعبرها يتم تحويل القطار القادم من المرفأ باتجاه البقاع او باتجاه الشمال أو الجنوب. ومن المحطات الاستراتيجية أيضاً محطتا رياق وطرابلس. في محطة رياق التي تبلغ مساحتها 170000 م م كان هناك مصانع لقطع الغيار ومشاغل للصيانة صارت كلها مدمرة ومهملة والقطارات البخارية صدئة ومتروكة.
محاولات العودة
سنة 2002 وضع حجرالأساس لإعادة ربط مرفأ طرابلس عبر سكة الحديد بالحدود اللبنانية السورية على أن يربط لاحقاً بالخط السوري وذلك لأغراض الشحن. وتم شراء الحديد الذي لا يزال موجوداً حتى اليوم بالأمانة في مرفأ طرابلس ورغم وجود ملف التلزيم وكل الخرائط والدراسات اللازمة لم يتم تنفيذ الخط .
و كان آخر تحديث لملف التلزيم موجوداً ضمن الأوراق التي أرسلت الى مؤتمر سيدر حيث تم رصد تمويل له من جديد. ولكن في كل مرة كان الملف يتضخم وفق د. نفاع ففي البداية كان الرقم يقدّر بـ 20 مليون دولار وانتهى في سيدر بـ 80 مليون دولار. وقد جعل التضخيم بالأرقام المشروع غير قابل للتنفيذ.
«في جمعية تران تران يقول نفاع عملنا جهوداً كبيرة منذ العام 2005 حتى اليوم للحفاظ على الإرث الثقافي لمحطات سكك الحديد ولإعادة تشغيل الخطوط لأننا مقتنعون أنها يجب أن تبقى شاهداً للأجيال القادمة لتعرف كيف كان لبنان مترابطاً ببعضه البعض وكيف عاش ازدهاره الاقتصادي والاجتماعي. ونحن اليوم بحاجة لهذا المفهوم الذي يساعد على بناء المواطنة وعلى ربط وتعريف الناس ببعضها كما يساعد على تفعيل السياحة الداخلية مع وجود قطار سياحي داخلي يربط بين الجنوب والبقاع والشمال والمدن الساحلية فيتعرف بذلك المواطن اللبناني على التعددية الثقافية في وطنه الذي يحتضن جميع أبنائه .
في العام 1996 طرحت أول خطة للنقل تلحظ استخدام سكك الحديد أعدتها شركة فرنسية تبعتها خطط كثيرة وصولاً الى العامين 2016 و 2019. وكانت الخطتان الأخيرتان بتمويل على شكل هبة من بنك الاستثمار الأوروبي وتم رفع الخطط الى مؤتمر سيدر لتنتهي كسابقاتها في الأدراج مع هدر للمال لإجراء دراسات مختلفة.
التهرّب من الإتفاقيات الدولية
جمعية تران تران أطلقت المخطط التوجيهي الوطني لسكك الحديد في آب 2019 في غرفة الصناعة والتجارة في طرابلس وبرعاية وزير الأشغال والنقل يوسف فنيانوس وسلمته الى الحكومة اللبنانية كهبة منها. ويعتمد المخطط تفعيل كل المرافق البحرية والجوية والبرية وربطها ببعضها البعض وربط سكك الحديد بالمدن الأساسية وتحفيز اللامركزية الاقتصادية وذلك عبر إعادة طرابلس عاصمة ثانية للبنان وإعادة مكانة صور كعاصمة سياحية وتثبيت مكانة بعلبك وزحلة في محيطهما». وبالتالي يقول د. نفاع نكون قد خففنا الاحتباس المروري والزحمة والفاتورة النفطية والدمار العمراني الذي يطال بيروت الكبرى. وخففنا الضغط وأزمة السكن على الأجيال القادمة.وأمّنا الازدهار على الصعيد الداخلي وجهزنا لبنان ليعود بوابة المشرق ويرتبط بالخطوط الاستراتيجية سواء الخط الصيني في مبادرة «الحزام والطريق» أو بالخط الهندي الذي طرح لاحقاً وتم الإعلان عنه مؤخراً.
وقع لبنان في العام 2003 اتفاقية ما يعرف باسم «إسكوا كوريدور» اي ممرات الإسكوا الاقتصادية لسكك الحديد وكان بين الدول التي وقعت في منطقة المشرق العربي. كل الدول نفذت هذا الاتفاق وطورت شبكاتها، حتى سوريا خلال حربها افتتحت في العام الماضي كجزء منه 350 كلم من سكك الحديد ربطت الساحل المتوسط بالقلمون الشرقي. لكن لبنان حتى اليوم لم ينفذ شيئاً من الاتفاقية التي يتعهد فيها تأمين خطوط اقتصادية تربط مرفأي بيروت وطرابلس بالشبكة المشرقية التي يفترض ان تصبح قيد التشغيل في 2025. وغيب نفسه عن ابرز الاتفاقات العالمية والإقليمية لكل الأسباب المعروفة.
رغم كل هذه الإخفاقات في مجال إعادة سكك الحديد الى الحياة وتطوير دورها لا يزال لمصلحة النقل المشترك وسكك الحديد دور مهم فهي المؤتمنة على النقل المشترك المشلول وإعادة وضع مخططاته وعلى الحفاظ على 403 كلم من الخطوط وإعادة ضخ الحياة فيها يوماً ما. من هنا يناشد رئيس جمعية تران تران الحكومة اللبنانية ووزارة الأشغال والمجلس النيابي تعزيز مصلحة سكك الحديد والنقل المشترك وتحديثها وتطويرها وعدم شيطنتها كسائر المؤسسات الرسمية.
قطار الحلّ؟
محطة طرابلس صامدة
على مساحة 40000 م م تمتد محطة قطار طرابلس التي فجرت مؤخراً فضيحة إدارية كبرى. هي محطة سعى لبنائها أهل طرابلس، لا الدولة العثمانية ولا الفرنسية، بجهودهم الخاصة ودفعوا ليرات ذهبية من جيوبهم لتصل سكة الحديد الى طرابلس. ولطالما شكلت رمزاً من رموز ازدهار المدينة وموقعها التجاري والاقتصادي المهم، واليوم صارت جزءاً من تراث طرابلس خاصة وأنها تضم معلماً تاريخياً مملوكيا يعود الى القرن الخامس عشر هو برج السباع. في العام 2017 شهدت المحطة احتفالات وأنشطة ثقافية عدة ومعرضاً للصور للإضاءة على قيمتها التاريخية. لكن اليوم وتزامناً مع اختيار طرابلس عاصمة للثقافة العربية للعام 2024 يتم الاعتداء على المحطة ومحاولة تغيير وجهها التاريخي. آليات جرفت مساحات واسعة فيها لأن إحدى شركات النقل استأجرت الموقع كمرآب لشاحناتها. ولكن تبين ان الإيصال الذي تملكه شركة الشحن بقيمة مئة مليون ليرة لا يحدد المساحة المستأجرة وهو مستند مبهم غير واضح وفق الاستيضاح الذي تم ارساله من قبل قائمقام الشمال التي تنوب عن بلدية طرابلس المستقيلة. مصلحة سكة الحديد تؤكد أنها لم تؤجر الأرض لكنها أعطت إجازة مقطوعة للشركة لإيقاف 15 شاحنة مقابل بدل لمدة شهر واحد. لكن هذا الأمر اثار عدة تساؤلات لأن المساحة المجروفة تتسع لأكثر من 100 شاحنة ولا تشير الى شهر واحد كما أن الأتربة والردميات تم رميها داخل مباني المحطة وكل ذلك أدى الى تشويه موقع تراثي مهم وتغيير لوجهة استعمال المحطة. إداريا أيضاً اثار منح الإجازة تساؤلات قانونية بشأن الاشغال المنوي تنفيذها وفي اي موقع وأية مساحة. هل تم استدراج عروض وإجراء مناقصات واضحة الشروط وفق قانون الشراء العام ام تم إعطاء الإجازة بتهريبة كما يقول الناشطون للدفاع عن المحطة؟ مدير المصلحة زياد نصر أكد في تصريحاته أنه يحق للمصلحة إعطاء الإجازة لمدة محدودة ولا شيء في ذلك يخالف القانون وصرح أنه لم يكن على علم أن الشركة ستجرف قرب المحطة وستضع الردميات في الأبنية ووعد بأن يتكلم مع الشركة لتصويب الأمور. لكن الناشطين يخشون أن يتوسع الاعتداء وتطالب الشركة بوضع سياج يحدد المساحة مؤكدين انهم ليسوا ضد استثمار الموقع ولكن ليس خارج إطار قانون الشراء العام.
سامر أنوس الباحث في معهد طرابلس لدراسة السياسات يؤكد أهمية محطة طرابلس فهي ملاصقة للمرفأ الذي تم تحديثه وبات يستقبل سفناً كبيرة الحجم. وعند بدء إعادة إعمار سوريا تصبح له كما لخط سكة الحديد الذي يصل الى الحدود السورية ومن ثم الى حمص أهمية كبرى خاصة ان لا تعديات تذكر على الخط. «يجب ان نكون مهيئين لاستغلال هذا الخط اقتصادياً بدل أن نتخلى عنه ونؤجر المحطة كما حصل. الحرب في سوريا والحظر الذي فرض عليها أوقفا مشروع سكة الحديد التي لا يزال حديدها في المرفأ بعد ان تم وضع اعتمادات له لكن اليوم يجب التفكير في المستقبل لكون هذا الخط واعداً جداً على خلاف خط الجنوب الذي لا جدوى اقتصادية منه. أما تاريخياً فالمباني عمرها أكثر من 100 عام جزء منها عثماني والآخر فرنسي وتمثل طرازاً يجب الحفاظ عليه وتصنيفها ضمن لائحة المباني التراثية. كما يمكن تحويل المحطة الى مرفق سياحي ثقافي وتنفيذ نشاطات فيه كما حصل في محطة مار مخايل والعمل على جلب تمويل من جهات مختلفة لترميم المباني والحفاظ على الذاكرة . ولمَ لا يتم تحويل المكان مثلاً الى متحف صناعي للقطارات البخارية كما في بعض دول العالم؟».