لا تزال السياسة النقدية التي اتبعها مصرف لبنان منذ 25 عاما، نقطة القوة الرئيسية التي يرتكز عليها الاقتصاد الوطني في مواجهة مجموعة عواصف ومطبات ناتجة عن تطورات اقليمية اولا، وداخلية ثانيا. ولا تزال المعالجات الحالية قائمة على ركيزة شراء الوقت، والرهان على يقظة ضمير قد تمنع الانهيار.
قد تختلف النظريات الاقتصادية في تحديد الخلفيات والتداعيات المحتملة لارتفاع بنية اسعار الفوائد في لبنان منذ عشرة أشهر، لكن الثابت ان كل التفسيرات، لا تستطيع ان تنفي ان البلد في أزمة خانقة. وسواء ارتكز المحللون على نظريات مدرسة الاقتصادي الانكليزي جون كينز (John Maynard Keynes)، في تحليل تحركات السوق، أو على قاعدة الاقتصادي الأميركي جون تايلور (John B. Taylor)، في تفسير اسباب وخلفيات رفع اسعار الفوائد منذ عشرة اشهر حتى اليوم، تبقى هناك مجموعة ثوابت تعكس حقائق ونتائج لاتخفّف من وطأتها زحمة النظريات.
ولا حاجة الى تكرار ما يحصل عادة في الاقتصاديات التي تتعرض لفوائد مرتفعة، لكن الأكيد ان أي ارتفاع دراماتيكي في اسعار الفوائد انما يعبّر بوضوح عن دقة الوضع الذي يمر به البلد اقتصادياً ومالياً في هذه الفترة، ويؤكد ان الأزمة عَبَرَت الى مرحلة جديدة اكثر حساسية من ذي قبل. بالاضافة طبعا الى تجميد الاستثمارات الجديدة، ووقف التوسّع في الاستثمارات القائمة، وجمود اضافي في مجمل الحركة السوقية. أضف الى ذلك، ان مفاعيل هذا الوضع ستظهر اكثر فأكثر مع مرور الوقت، وفي حال تعذّرت العودة الى خفض تدريجي لاسعار الفوائد، بحيث ان بعض القروض القائمة قد تتغيّر بنية اسعار فوائدها، ويصبح صاحب العلاقة، عاجزا عن التسديد. كذلك تبرز أزمة ارتفاع كلفة الدين العام الى مستويات قياسية، في اصدارات السندات الجديدة، والمتوقعة في مرحلة لاحقة.
كل هذه التداعيات تعني ان قرار رفع اسعار الفوائد جاء في ظروف استثنائية، وكانعكاس حتمي لتدرّج الأزمة نحو المزيد من الحدة والخطورة. حتى لو ان التفسير الاقتصادي لرفع اسعار الفوائد يمكن تبريره بالاستناد الى نظريات وقواعد لها علاقة بنسب التضخّم والبطالة وتطور حجم الناتج المحلي، الا ان كل ذلك لا يعني ان في الامكان تحاشي هذا الارتفاع عندما تصل الأزمة المالية والاقتصادية الى هذا الحد من الحدة.
والسؤال الذي يُفترض ان يُطرح هنا هو التالي: ما هي البدائل التي كان يمكن اعتمادها في هذه الظروف بدلاً من رفع اسعار الفوائد؟
على هذا السؤال، يجيب البعض انه لا بد من اعادة تسعير الليرة على الدولار. ولا يدرك هؤلاء ان هذا الاجراء الذي يطالبون به، سواء عن حسن نية او لغايات خبيثة غير مُعلنة، قد يؤدي عمليا الى انهيار شامل. ومن أجل ذلك يبدو حاكم المركزي رياض سلامة حازما وجازما في هذا الموضوع: سعر الليرة لن يتحرّك وسيبقى ثابتا.
والى من لا يعرف، الموضوع لا يتعلّق فقط باعادة تسعير الليرة على الدولار، كما يطالب البعض، بل بالثقة التي بُنيت طوال 25 سنة. هذه الثقة اذا اهتزت تؤدي الى بلبلة في ضبط ايقاع السياسة النقدية، والى وضع فوضوي يصعب معه تحديد سعر الليرة، وقد يؤدي الى انهيار لا يمكن تحديد سقفه الأعلى.
وينبغي التعاطي مع الواقع بتواضع وموضوعية، لأن اقتصاد لبنان لا يشبه بطبيعة الحال اقتصاد الولايات المتحدة الاميركية، ولا مصرف لبنان لديه قدرات الفدرالي الاميركي، لكي يتحكّم بخفض سعر الليرة في ظروف دقيقة، ويضمن ان الوضع سيبقى تحت السيطرة.
من هنا يمكن الاستنتاج ان سعر صرف الليرة سيبقى ثابتا بقرار، على اساس انه مهما كان ثمن تثبيت سعر العملة الوطنية باهظا، يبقى أوفر من كلفة فقدان الثقة، التي تؤدي فورا الى الانهيار.
ان رفع اسعار الفوائد، يشبه قرارات سابقة، يجري تصنيفها في لائحة أفضل الممكن. وهو اجراء من مجموعة اجراءات يتم اتخاذها لتأخير السقوط، بانتظار ان تبدأ مسيرة الانقاذ الاقتصادي، من خلال تنفيذ الاصلاحات، ووقف الهدر والسرقة.
وبانتظار أن يسقط الوحي على اهل السياسة، لا بد من اجراءات اضافية لضبط ايقاع السوق، وهذا ما يفسّر صدور التعميمين 503 و504 من مصرف لبنان. وهما يهدفان الى اعادة دوزنة الكتلة النقدية، والى تسهيل اعادة جدولة القروض، للتخفيف من نسب الديون الهالكة.
وصدور التعميمين في هذا التوقيت، يؤكد مرة جديدة ان عين مصرف لبنان ساهرة على السياسة النقدية، وان مصدر الثقة الدائم بالمصارف يستند الى هذا الواقع بالذات.