تغور عيناه خلف وجنتيه ويرفع كفّ يده اليسرى ويخبطه على الطاولة (3 مرات في أقل من دقيقة) وهو يوصل رسالة التهديد، ثم يبسط كفّيه ويدعو للمحافظة على الحكومة والاستقرار والسلم الأهلي! هكذا بدا مشهد الخطيب المتوتر، الأمين العام لـ»حزب الله« السيد حسن نصرالله، خلال حفل تأبين بمناسبة مرور أسبوع على مقتل القيادي في الحزب حسن محمد الحاج. وهكذا استعاض السيد عن رفع الاصبع بوجه تيار «المستقبل« وقوى 14 آذار بالضرب على الطاولة، علّ صوت احتكاك لحم الكفّ بخشبها يُسمع صداه عند من يهمه الأمر.
الأدبيات نفسها التي خبرها اللبنانيون تتكرّر. صراخٌ وتهديدٌ ووعيدٌ، ومن ثم التأكيد على ضرورة «منع الانهيار الكامل»! ففي خطابه، توجّه نصرالله الى تيار «المستقبل» والفريق الآخر بالقول: « ندعو للحفاظ على الحكومة، لكن إذا شعرتم بالإحراج أو المنّة فـ»الله معكم.. ولا داعي لوجودكم فيها»! قد يكون السيّد على حق. ففي كافة الدول الديموقراطية ينسحب المُحرَج والممتعض من الحكومة ويلجأ الى المعارضة. لكن لماذا لم يطبّق سماحته هذه القناعات طوال عشر سنوات؟
الشواهد كثيرة. فليعد اللبنانيون قليلاً الى الوراء. في 12 كانون الأول عام 2006، أعلن الوزراء الشيعة مقاطعتهم للحكومة، لخلافٍ حول تمويل المحكمة الدولية. يومها، لم تتمكّن استقالة وزراء «حزب الله« وحركة «أمل« + الوزير الأرثوذكسي يعقوب الصراف، من الإطاحة بحكومة الرئيس فؤاد السنيورة. إلّا أن السيّد وعموم فريق «8 آذار» وصفوا حكومة السنيورة آنذاك بـ»غير الميثاقية». وذهب هؤلاء الى حد اعتبار قرارات مجلس الوزراء «تجاوزاً للدستور». بل أكثر من ذلك، فنصرالله الذي يقول لـ»المستقبل»، «الله معكم»، هو نفسه نصرالله الذي خيّر حكومة السنيورة سابقاً بين سيناريوين: «إما توسيع الحكومة (ليصبح عدد وزراء 8 آذار الثلث+1)، أو المواجهة بالشارع والتظاهرات. لماذا لم يطبّق نصرالله يومها المبدأ نفسه الذي يتحدّث به اليوم؟ لماذا لم يخرج يومها ليقول، «نعم.. نحن ممتعضون ومحرجون، والله معنا من الحكومة»؟ لماذا تصبح الحكومة «غير ميثاقية» إذا استقال الوزراء الشيعة منها، بينما قد تحافظ على ميثاقيتها إذا استقال وزراء تيار «المستقبل«؟
ليست الحكومة هي الوحيدة التي قال نصرالله ان لا حاجة لوجود الفريق الآخر فيها. حتى أن السيّد لوّح بأنه سيُعيد النظر بطاولة الحوار إذا مَنّ أحد عليه المشاركة! هكذا يظهر السيّد بمظهر الحريص على الحوار. فهو متمسّك به، لكن «الآخرين يمنّون عليه»! نعم، هو نصرالله نفسه الذي انقلب ونسف حوارات عديدة طوال عشر سنوات. في عام 2006، قلب طاولة الحوار حين جاء دور البحث في الاستراتيجية الدفاعية. وفي الدوحة، انتزع سماحته «الثلث المعطّل» بقوة السلاح وما لبث أن انقلب على تعهده بعدم استخدامه لإسقاط الحكومة. وفي حوار 2012، مزّق نصرالله «إعلان بعبدا» قبل أن يجفّ حبره بعد أن جاء أمر «الولي الفقيه« بالتدخّل في سوريا الى جانب الأسد. واليوم، يدخل «حزب الله« في حوار ثنائي مع تيار «المستقبل« وآخر جماعي مع القوى السياسية، لإرساء استقرار هو في أمسّ الحاجة اليه لأنه ينشغل في حروب الولي الفقيه العابرة لحدود الدول ما عدا الحدود الفلسطينية! فلماذا لا ينقلب السيّد، صاحب التاريخ العريق بالانقلابات، على الحوارات الحالية عندما تقتضي الضرورة؟ ألم يقل سماحته، الحريص على الحكومة والحوار والاستقرار، في مجلس عاشورائي مساء أول من أمس، «بس تخلص الحرب لكل حادث حديث»؟
وضع نصرالله، بكلامه، معادلة جديدة: أخرجوا من الحكومة فـ»الله معكم»، لكن عندما أخرج انا فسأواجهكم بالقمصان السود وبـ7 أيار! أيضاً، رفض السيّد أن يمنّ أحد عليه، بينما هو لم يمنّ على أحد بتحرير الجنوب من الصهاينة! وهل هناك منة أكثر من ذلك؟ وكأنه يقول: «ما بدي مننّك، بس لولاي كنت متّ الجوع»! هل هناك فريق يمنّن اللبنانيين «على الطالعة والنازلة» كما يفعل السيّد؟ ألم يقل عشرات المرات إنه لولا المقاومة لاحتلت إسرائيل كامل الأراضي اللبنانية؟ ألم يقل السيّد مئات المرات إنه لولا «رجال الله» لأصبحت داعش في جونيه والجنوب؟ ألا يكفي أنه يحكم لبنان بقوة الأمر الواقع بحجة الحفاظ على «الانتصارات الإلهية»؟ ألا يكفي أنه فرض «المعادلة الخشبية» بقوة السلاح ليشرع دولة لا تُسأل عما تفعل، بحجة المحافظة على إنجازاته؟ لكن الأهم، هو أن السيّد ابتكر إشارات جديدة في التهديد. ولّى زمن رفع الاصبع وحان زمن الضرب على الطاولة. قد يأتي يوم، بحسب أحد الزعماء اللبنانيين، يخبط فيه السيد يده على الطاولة ويقف عن كرسيه ليقول: «أنا من يملك السلاح.. وروحوا بلطوا البحر»..