منذ عقود وخطر الجماعات الدينية المتحزبة يتنامى ويتمدد خارج سياج الدولة وخارج سياج الأسرة، منذ عقود واستقطابهم لأجيال من أبنائنا مستمر تحت سمعنا وأبصارنا كأُسَر وكأولياء أمور وكمدرسين ومعلمين، حتى كبر جيل متحزب من أبنائنا تم اختطافه من بين أحضاننا وتربيته نيابة عنا تربية حزبية صارمة لا تقر بسلطة غير سلطة الحزب التي تعلو على سلطة الأب وسلطة الدولة.
رامي عليق لبناني شيعي من النبطية هو الآن أستاذ في جامعة بيروت الأميركية، كتب كتابه «طريق النحل جمهورية رامي عليق» عام 2007، حظي ببعض الاهتمام في حينها واستضافه معوض على الـ«بي بي سي»، كتابه هذا يحتاج إلى المزيد من العناية والمزيد من تسليط الضوء عليه. يكفي أن نعرف أن حزب الله صادر الكتاب ومنع بيعه في المكتبات، ولم يجد رامي عليق مكانا يعيد طباعة نسخته الثانية وكتابه الثاني «تحت المياه الخضراء» غير البحرين، فرامي أحد كوادر الحزب النشطين والفاعلين وحظي برعاية حسن نصر الله شخصيا، ونال اهتمام ورضا الحرس الثوري الإيراني، وحين ينشق عضو بهذه الأهمية وله رغبة في البوح يكون كنزا معلوماتيا نستقي منه خلفيات لوجيستية ومنهجية تنبع من كونه مسؤولا عن إحدى شُعَب الحزب الخاصة بالتعبئة، لهذا كان رامي عليق مصدر تهديد كبير ونجا من محاولتي اغتيال.
حكاية رامي عليق مع حزب الله، وهو ليس أي عضو، كان مسؤولا في شُعَب التعبئة الحزبية أي شعبة تجنيد الشباب ورعايتهم وتوجيههم، أي أن كتابه «طريق النحل جمهورية رامي عليق» سيتناول مرحلة التكوين ومنهجية الاستقطاب، وقد شرحها رامي شرحا بنوراميا تناول فيه المؤثرات من المنظور الفقهي والبيئي والجيني والموروثات الثقافية التي تحيط بالشاب الشيعي وتجعله لقمة سائغة للاستقطابات الحزبية.
شرح رامي عليق كيف سرقه الحزب من والديه حتى أصبحا مجرد ممولين له، كيف تمرد عليهما، كيف أرهقهما، كيف فقدا سيطرتهما عليه، ثم كيف انقادا له ولم ينقَد لهما، ثم كيف سرق الحزب عقله وجعله يخشى أن يتنفس دون أن يفكر شيخه نيابة عنه ويأذن له كيف ومتى يتنفس. تلك فترة الاستلاب وغسيل المخ، إذ لا سلطة أبوية ولا سلطة قانونية، يغسل العقل من (شوائب) التعاليم التربوية السابقة ويتهيأ للاستسلام للقيادة الجديدة. يقول رامي في الصفحة 27: «في جامع سراي القديم بالنبطية كانت حلقات النقاش تعقد جلوسا على حصير على الأرض، كان النقاش يدور على الدوام وبحدة حول ما اعتبرناه في ذلك الحين مبادئ أساسية في الفقه الشيعي كضرورة الالتزام بتقليد مرجع ديني شيعي في شؤون حياة الفرد جميعها، ومن ضمنها نظرية الإمام الخميني في تطبيق ولاية الفقيه، انعكست النقاشات على تصرفاتي وتصرفات الآخرين الملتزمين بهذه المبادئ، فكنا نراجع المشايخ في أدنى تفاصيل حياتنا اليومية».
يشرح رامي في كتابه كيف تتم عملية عزل الشيعي عن محيطه الاجتماعي وعن ذاته ليحل الحزب مكان الكل، فلا جار ولا زملاء يستحقون أن يتعاطى معهم إلا بقدر ما يخدم هذا التعاطي مصالح الحزب، يشرح عن الصراع النفسي الذي عاشه مراهقا وعاشه شابا بين قيم ومفاهيم ومبادئ أخلاقية رماها الحزب وراء ظهره حين تتقاطع مصالح الحزب مع مصالح الآخرين، ففي الصفة 66 يقول عليق: «أذكر مثالا معبرا، اعتقادا منا بأن الشيعة هم في تعرض دائم لمؤامرة تهميشهم قمنا بمحاولات اختراق أنظمة الامتحانات للدخول إلى ملفاتها من أجل تمكين أكبر عدد من الطلاب الشيعة من الانتساب إلى الجامعة، عندما انكشفت بعض المحاولات طلبت بلغة لم تخلُ من الترهيب إلى الإداريين والمسؤولين عدم إثارة الموضوع.. ولم يفعلوا».
كيف زين له التخريب طفلا وزين له عصيان القوانين وهو المراهق ابن الثالثة عشرة وأقنعوه أنه على طريق الأئمة حين عوقب على تخريبه وعصيانه الإدارة المدرسية؟ يقول في الصفحة 34: «كانت المرة الأولى التي أدخل فيها غرفة الاعتقال وأنا ما زلت حديث السن، لكن الأمر ترك لدي انطباعا بأني على درب أئمة الشيعة الصحيحة، ذلك الدرب المليء بالمعاناة والظلم كما كانت قناعتي حينذاك».
ثم ينتقل بنا عليق إلى كثير من الصدمات التي تلقاها في طريق النحل، كيف اكتشف أن أول حروبه كانت بين شيعي وشيعي (حركة أمل وحزب الله)، كيف كانت الصراعات الحزبية تغطى ويعتم عليها بين فضل ونصر الله، كل ذلك باسم وحدة الصف، ثم تحدث بإسهاب عن خضوع الحزب لإيران وإدارته بالكامل من قبل عناصر للحرس الثوري الإيراني ووصوله إلى أحد المسؤولين الرئيسيين عن الحزب اللبناني ومحاولة إقناعه بأفكاره الإصلاحية للحزب. كان عليق يأمل أن يطور من أداء الحزب سياسيا كي يكون له دور أكبر في الساحة السياسية اللبنانية، وفوجئ بل صُدم وبكى حين انتهى لقاؤه بالمسؤول الإيراني في قم: «إن فكرتك حول الإصلاح لا تتلاءم مع طبيعة المهام الجهادية التي أعد لها الحزب».
أهم ما في الكتاب هو فتح باب المسكوت عنه من صراعات النفس البشرية الطبيعية التي تبحث عن ذاتها المفقودة حين تستلبها التنظيمات والأحزاب وتعيد تشكيلها وفق المصلحة الضيقة.
كنت أقرأ الكتاب وأنظر إلى مئات إن لم يكن الألوف من البحرينيين وربما السعوديين أو الكويتيين من أبناء الشيعة من الشباب الذين أغواهم هذا الحزب أو ذاك وحوّلهم إلى وقود لحرق أوطانهم ظنا منهم أنهم يسيرون على طريق الأئمة كما كان يظن رامي عليق، فليتهم يسمعون تجربته، يسألونه، يتحاورون معه، كيف اكتشف رامي عليق لبنانيته متأخرا، كيف اكتشف أنه لم يكن أكثر من حجر على رقعة شطرنج إيرانية.
إنه يسأل في مقدمة كتابه: «لماذا نضطر عند كل حرب ومأساة إلى الاصطفاف وراء ساسة لا يجروننا إلا إلى مزيد من الانغلاق والعزلة في وقت نتوق فيه إلى الانفتاح والتواصل مع الآخر، كما عودنا على ذلك آباؤنا وأجدادنا؟ لماذا جرى إحلال التطرف والانعزال اللذين غذتهما سياسات المحاور الإقليمية محل لغة الاعتدال والانفتاح الديني التي كانت سائدة، فبتنا نشعر بأننا لسنا سوى ضحايا عمليات التآمر علينا المفبركة بإتقان والمربوطة زورا بتاريخنا الديني؟».
شبابنا الخليجي الذين انسلخوا عن هويتهم وثوبهم فتحولوا إلى إيرانيين أكثر من الإيرانيين، تحولوا إلى أفغان أو أتراك أكثر من الأفغان والأتراك، إن كانوا سنة ليتهم يطّلعون على تجربة كتجربة عليق، وصل به الحماس إلى ترقيته وجعله من الكوادر التعبوية، لذا فإن أبناءنا بحاجة إلى أن يسمعوها منه لا منا ولا من والديهم ولا من رجال دين تم تسقيطهم، إنه واحد منهم مشى في طريقهم واندفع اندفاعهم، إنها رواية تعاد ونراها تتكرر منذ عقود، ورغم علمنا بمأساتها فإننا عجزنا كأُسر وكدولة عن إسدال الستار على فصلها الأخير.انه وطن لا يتكرّر بين الأمم.