“كفريا”: اللهمّ اشهد إني قدّ بلّغت
طرابلس الأبية، الشمال العريق، عكار الساحرة، بترون الجميلة، بشري المقاومة، كفريا الضحية… وماذا بعد؟ ماذا بعد أن نسرح في تسميات أوصاف المدن الشمالية؟ هل هناك من يعبث فيها محدثاً بالفعل فساداً وخراباً؟ ماذا عن غضب كثير من أهل الشمال وطرابلس من محافظ لم ينجح في الحفاظ لا على المنصب ولا على رضى الناس؟
ليالي الشمال الحزينة ضلّي اذكريني اذكريني… كثير من أهالي الشمال يغنون مع فيروز وهم يستعيدون حكايات محافظ الشمال القاضي رمزي نهرا. فما حكاية هذا المحافظ الذي نجح في جعل كثير من الشماليين يكرهون اسمه؟
البارحة، وصل عدد من سجلوا اسماءهم في طرابلس على عريضة يطلبون فيها إقالة المحافظ الى 2500 ويحتاجون بعد الى 2500 اسم من أجل رفعها الى المراجع مطالبين بالإقالة. والبارحة كان أهل كفريا، في قضاء الكورة، يراقبون عمالاً أرسلوا مع معاولهم، بتغطية من المحافظ، للمضي في مشروع بناء مزارع الدجاج في القرية التي كانت هانئة. الحانقون كثيرون. والكلام عن فساد وسمسرات وأسلوب فيه كثير من البطش يصدح هنا وهناك. وفي كلِها يبرز نفس الإسم مجدداً: المحافظ رمزي نهرا. فلنبدأ من كفريا لنرى تطورات قرار المحافظ إنشاء مزارع الدجاج فيها على الرغم من نقضه مرة ومرتين وثلاثاً من المراجع الصحية. سركيس عبدالله، إبن كفريا، نبت على لسانه الشعر، منذ ثلاثة أعوام، وهو يردد في كل مقام مساوئ هذا القرار، وينتقل من موقع الى موقع، مستنكراً باسم “الكفرياويين” القرار الباطل. نسمعه فنشعر به وكأنه يكاد يكفر لولا إيمانه بأن الخير لا بُدّ أن يعود ذات يوم وينتصر.
فماذا يحصل هناك في كفريا؟ يجيب: “يدور الخلاف حول قطعة أرض في كفريا بيعت الى شركة دجاج “ويلكو” التي تروج منتجاتها تحت إعلان “دوق الفرق”. صاحب الشركة حصل على ترخيص غير مسبوق من سعادة محافظ الشمال، ما أدخلهم في صراع مرير وطويل معه، فهو دعم الشركة من كل الجوانب، على الرغم من تقارير متتالية من اللجان الطبية التابعة لوزارة الصحة، أيام جميل جبق، كشفت أن الأرض غير صالحة لقربِها من المساكن. وزارة الصحة طالبت بوقف الأعمال وحوّلت قرارها الى الداخلية التي طلبت من المحافظ وقف الأعمال. لكنه لم يُبلّغ شركة “ويلكو” به إلا متأخراً، بعدما حفروا الأرض وبنوا مزرعة من أصل 12 مزرعة ينوون تشييدها هناك. ويسترسل سركيس في متابعة السرد “ان أثناء الحفر عُثر على آثارات قديمة فذهبنا الى مدير عام الآثار سركيس خوري وأبلغناه لكن، استمرت الأعمال، بأمرٍ من المحافظ الذي يتصرف وكأنه رئيس جمهورية الشمال. وبعد ضغوطات كثيرة، من أكثر من جهة، تريثوا. مع العلم أن كتاب وزارة الصحة كان قد منع الرخصة واعتبر الأعمال باطلة مئة في المئة”. لكن على من تقرأ مزاميرك يا داوود.
القوة الخارقة
اليوم، ها قد عادت شركة الدجاج الى أعمالها بتغطية من المحافظ. يحصل هذا على الرغم من حصول الأهالي على قرار آخر، جديد، من وزارة الصحة يطالب بإيقاف العمل. فهل “ويلكو” قوية الى هذه الدرجة أم أن المحافظ أقوى من كل القرارات؟
هناك، في كفريا، يجزمون بأنهم ضحية فساد. ويتحدثون عن قوة المحافظ “الخارقة” في فرض ما يريد. لكن، من أين يستمد هذا المحافظ قوته؟ يجزم الأهالي ان رمزي نهرا، المحسوب على رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، محسوب ايضا على أحمد الحريري. يعني هو يُمسك مجد “المحسوبية” من ضفتيه”. لكن، أليس في مثل هذا الكلام بعض المغالاة؟ يتكرر هناك اسم رئيس قسم محافظة لبنان الشمالي لقمان الكردي الذي هو “زلمة” أحمد الحريري ويعمل مع رمزي نهرا. ويروون أن الأخير لو لم يكن يملك حصانة الإثنين، عون والحريري، لما نجح في الصمود. ولكان بعض أهل طرابلس أقفلوا عليه الطريق نهائياً ومنعوه من العبور الى السراي في طرابلس.
حراس المدينة
في السياسة، إذا قلنا الحريري وعون، نكاد نشعر بأن الأزمات ستكون من نوع “فالج ما تعالج” أما في الواقع، في ما يحدث من أمور يعتبرها أهل الأرض غير قانونية، فتتالي الإسمين ممكن. فالمصالح حين تلتقي تُصبح كل الأمور ممكنة.
ما رأي مسؤول “حراس المدينة” (مدينة طرابلس) أبو محمود شوك؟ يجيب “من اليوم الذي تسلم فيه رمزي نهرا منصب محافظ الشمال كثرت المخالفات. فبدأ يغطي أصحاب المولدات ومخالفات البناء والآبار. واستخدم في الآونة الأخيرة البلطجة فهجم على الناس بالهراوات التي فيها مسامير (وهو ما حصل مع رئيس الوكالة الوطنية للإعلام في طرابلس عبد الكريم فياض). ودأب المحافظ على السعي من اجل “فرط” البلديات من الداخل من أجل استلامها والإمساك بها” (ولا يُستبعد أن تكون الإستقالات أول البارحة في بلدية طرابلس تندرج في هذا الإطار). ويستطرد شوك بالقول “صحيح انه حين وصل “الزلمي” في العام 2015 ساعدنا في مسألة النفايات، لكن سرعان ما فهمنا انه “يتمسكن ليتمكّن”. وبدا الأمر جلياً ايام الثورة ووضع صورته على صفحته على “السوشيل ميديا” امام شعار “ما فيك تكون لبناني أصيل وتكون ضد باسيل”. وجدنا في هذه الصورة كيدية واضحة. وهو لم يكن عادلاً يوماً على الرغم من كونه قاضياً. ونفس الكيدية عاد واستخدمها في بلدية طرابلس مع رئيسها الدكتور رياض يمق. تعامل معه باحتقار ما سبب إزعاجاً كبيراً لكثير من المواطنين الطرابلسيين. المحافظ أكثر من استخدام “البلطجة” فأهان اهل طرابلس والشمال”.
تتكرر كلمة “بلطجة” في مدن شمالية كثيرة قبل اسم سعادة المحافظ رمزي نهرا. فهو، بحسب مسؤول حراس المدينة حاول قتله صدماً ايضا ويقول “اعترضناه امام فرع المعلومات على باب السراي فصدمني بسيارته مع عنصرين في فرع المعلومات. ورفعتُ دعوى قضائية ضده. الأعمال الكيدية غير مقبولة بتاتاً في طرابلس. ونحن نطالب اليوم وبإلحاح باللامركزية الإدارية كي تكون الصلاحيات في ايدي البلديات لا المحافظ”.
ممنوع الدخول
المحافظ نهرا ممنوع عليه ان ينزل الى السراي في طرابلس منذ اكثر من شهرين. ويقول شوك “نحن كحراس نمنعه مدنياً كوننا لا نتبنى اي عمل بالقوة. نمنعه برمي النفايات والبيض عليه. ونحن بتنا متأكدين انه لا يستطيع ان يتابع مهامه على هذا الشكل. لهذا نجمع تواقيع من أجل رفعها الى الجهات المختصة مطالبين بإقالته. وتخطى عدد التواقيع حتى الآن الرقم 2500”.
رمزي نهرا عُيّن من جبران باسيل وهو محسوب، بحسب شوك، على احمد الحريري. ومن يلعب على الوترين هو لقمان الكردي الذي هو الرجل الرقم 2 في المحافظة. هذا الرجل يساهم في جعل المحافظ، كما المنشار، يأكل “على الطالع وعلى النازل”. إنها المصالح السياسية التي تجمع”. الكلام كثير. التحليلات كثيرة. والقهر ايضا كثير. والسؤال: هل محافظ الشمال يجمع بالفعل مجد “الحسابات السياسية” التي تخوله فعل ما يشاء من ضفتيه؟
النائب السابق ونائب رئيس تيار المستقبل مصطفى علوش لا يرغب في الدخول بهذه المتاهات لكنه يعطي رأيه (كنائب رئيس تيار المستقبل) في محافظ الشمال بصراحة “رمزي نهرا شخصية تافهة تساوي شوال تبن لا أكثر ولا أقل. إنه شخصية جدّ مؤذية في طلته ووجوده. وأكثر من كل هذا هو شخص حاقد على مدينة طرابلس. ومن يدعمه هو جبران باسيل وحده كونه عضواً في التيار الوطني الحر ويفتخر” ويستطرد علوش بالقول “كل إنسان حرّ بخياراته، فنحن في بلد مفتوح، لكن حين يكون هذا الإنسان في موقع المسؤولية ويتصرف كما يتصرف رمزي نهرا، فهذا غير مقبول”.
مع الحريري وباسيل
لكن، كثير من اهل الشمال وطرابلس يحكون ويسهبون عن “لقمان الكردي” الذي يتباهى بكونه مع بيت الحريري ومع المحافظ نهرا؟ يجيب علوش “لا أعرف لقمان الكردي ولم ألتق به. وكل ما يمكن قوله ان تيار المستقبل مع إقالة محافظ الشمال”. هل نفهم من هذا الكلام ان الإقالة ممكنة؟ بحسب نائب رئيس تيار المستقبل “صعب ذلك لأن هذا الأمر من المسائل المرتبطة بالتوافقات السياسية. لكن، تيار المستقبل يُرحّب جدا بطرده”.
لقمان الكردي إذا هو “بيت قصيد” في كلِّ مرة يبرز فيها اسم محافظ الشمال رمزي نهرا. هو رجلٌ يُكثر من اللقاءات والصور والعشاوات والتكريمات. نراه يذبح الماشية على شرف الشيخ أحمد الحريري. ونراه يرفع صورة للشيخ سعد الحريري مذيلة بعبارة تقدمة: لقمان الكردي وبعبارة “بعدكم ما بتعرفوا مين سعد الحريري”. ونرى صورة المحافظ نهرا على مكتبه. ونراه يكثر من عبارات التفخيم للمدير العالم للأمن العام اللواء عباس ابراهيم وقيادة الجيش… هو رجل قد يكون “مفتاحاً انتخابياً” قادراً ان يُرضي في آن أكثر من طرف. قبل أن نغلق علامة الإستفهام حول الكردي، نذكر أن وزير الداخلية السابق نهاد المشنوق كان قد قرر ذات يوم إحالته الى التفتيش بسبب تفلته من ضوابط كثيرة بينها قوله في العام 2014 للمرشح عن المقعد السني في طرابلس توفيق سلطان “يا سلطان ضبّ لسانك واستحي”.
ما رأي عضو المجلس الشرعي في طرابلس الدكتور بلال بركه بكل المشكلات التي تحوم وتعنون باسم المحافظ رمزي نهرا؟ يختار الدكتور بركه مرادفاته بعناية شديدة. أنيق هو في الكلام جداً ويقول “المحكمة الشرعية تقع في السراي وهي تتبع المجلس الشرعي ونحن، بعد احداث طرابلس الأخيرة وحرق مبنى البلدية والمحكمة السنية الشرعية وما تلا ذلك من احداث، استنكرنا. وطلبنا استيضاح ما حصل بين رئيس البلدية رياض يمق والمحافظ رمزي نهرا. ثمة أصول في التعامل يفترض الّا يحيد عنها احد. ونحن، حتى ولو أخطأ رئيس البلدية، لا يحق للمحافظ ان يتوجه إليه مثلما فعل. ويشدد بركه: كلامي هذا خارج اي اصطفاف، وبعيد كل البعد عن مذهب رئيس البلدية او مذهب المحافظ. نحن أردنا من المحافظ ان يحافظ على العادات والتصرفات التي تليق بأهل البلد والشمال وطرابلس. ثمة خطوط لا يحق لأي كان تجاوزها”.
الدكتور بركه، الأستاذ الجامعي، من دعاة: إنسان صالح مواطن صالح. وهو رأى، كما كل اعضاء المجلس الشرعي في طرابلس وآخرين، أن الأسلوب الذي ينتهج من قِبل المحافظ يفترض أن يعاد النظر به.
المحافظ القوي
يبدو أن سعادة محافظ الشمال لم يترك له “صاحباً” إلا رئيس التيار الوطني الحر. ونرى أن الحاقدين عليه ينتشرون (على الأقل) على مدى محافظة الشمال. في المقابل، يبدو وزير الداخلية محمد فهمي لا يترك سانحة إلا ويحاول فيها تفادي “الأعظم” في الشمال.
ما هذا البلد الذي نعيش فيه؟ سؤالٌ يبقى مفتوحا ونحن نستمع الى حكايات أهل الشمال مع “محافظة الشمال”. وهل صحيح ما يُشاع عن ان المحافظ هو أقوى من كل نواب طرابلس والشمال؟ يتكلم أبو محمود شوك “عن طرابلس عروس الثورة التي نجح أهلها ذات لحظة في إبراز صورتها الحقيقية و”أن الطرابلسيين غير هيك” (غير ما يُروّج عنهم)” ويستطرد بالقول “أعتقد أن وزراء ونواب طرابلس والفاعليات فيها شاركوا في ما بلغته المدينة من تهميش، ليس بسبب سكوتهم فقط عن الأخطاء التي ترتكب بحق المدينة، بل حتى بغضّ النظر أحيانا عن ذلك. ومن لا يرفع صوته هو مشارك في الظلم”.
قبل ان نختم، ماذا عن كفريا؟ هل تنام ام تخشى ان تغط عيناها فتسرح الوطاويط؟ هناك في كفريا من يتحدث عن شهداء سقطوا في 21 يوماً، في مواجهة قوات ابو عمار، وتصدي 15 مقاتلا من اولاد القرية باستبسالٍ قلّ نظيره. وعيون من بقي حيا من هؤلاء، وأولادهم، مفتوحة، شاخصة، تراقب: فمزرعة الدجاج التي يصرّ المحافظ على فرضها بالقوة لن تمرّ إلا على جثث الأهالي. وهي ستضم، إذا مرّت، مليون و 200 الف طير ومسلخ، وستبدل شكل القرية وتشقلبها رأسا على عقب. وهذا ما لن يقبلوا به. لهذا ها هم يرددون اليوم: اللهمّ إننا بلغنا.