يسجّل نصيب الفرد من الإنفاق على الأدوية في لبنان أعلى معدل في الشرق الأوسط، لا بل يُعتبر من أعلى المعدلات عالمياً. أسباب عديدة تقف خلف ذلك، أبرزها نشوء شبكة واسعة من المصالح تجمع أطباء بشركات أدوية. إذ يصف الأطباء أدوية لا لزوم لها وأخرى باهظة الثمن في مقابل الحصول على امتيازات وهدايا تبدأ بدعوات إلى ملاهٍ ليلية وتصل إلى قروض سيارات. لا تقتصر العواقب على نفخ الكلفة المباشرة، إنما تهّدد صحة مجتمع بأكمله وتجعله معرضاً لارتفاع مستوى مقاومة الميكروبات للأدوية وامتداد فترة المرض ومدة العلاج، ما يساهم في رفع معدلات المرض والوفيات
40% من الوصفات الطبية التي أُخذت من 7 مستشفيات في لبنان تضمّنت خطأ! 9% منها تنطوي على وصف غير ضروري للأدوية، 7% تنطوي على وصف أدوية غير محددة، كما تضمنت 6% منها جرعة دواء ناقصة أو لا تكفي للعلاج، و2.8% نصّت على وتيرة تناول أدوية غير ملائمة، و3.5% نصّت على فترة تناول أدوية غير كافية.
بالإضافة إلى ذلك 42% من حالات التهاب البلعوم في لبنان وصف لها أطباء الرعاية الصحية الأولية المضادات الحيوية بدرجة عالية، في حين أن نسبة انتشار التهاب البلعوم في لبنان هي فقط بين 5% و30%. كذلك فإن 72% من المضادات الحيوية الموصوفة هي من المضادات الواسعة الطيف، كما أن 72.16% من وصفات المضادات الحيوية لا تلتزم بتوجيهات الجمعية الأميركية للأمراض المعدية والجرثومية.
تعكس هذه الأرقام، التي نشرها مركز ترشيد السياسات الصحية في كليّة العلوم الصحية في الجامعة الأميركية في بيروت واقعاً صحياً سيئاً على صعيد نمط وصف الأدوية في لبنان، إذ أنّ هذا الأمر “يجعل المرضى عرضة لآثار سلبية خطيرة، ويزيد من مستوى مقاومة الأمراض للعلاجات، ويؤدي إلى ارتفاع غير ضروري في تكاليف الرعاية الصحية للمرضى والمجتمع بشكل عام”، كذلك يساهم في رفع معدل الوفيات. دفعت هذه النسب المثيرة للقلق المركز إلى نشر ملخص للسياسات الصحية يتعلق بـ “تحسين جودة ونمط وصف الأدوية”، يكشف فيه عن السبب الأبرز في عشوائية الوصف وارتفاع فاتورة الدواء في لبنان: شبكة مصالح تجمع شركات الأدوية بالأطباء؛ ليخرج بخلاصة مفادها أنّ الترتيبات الحالية للنظام الصحي في لبنان لا تشجع الوصف العقلاني للدواء.
إن مقاومة الميكروبات للأدوية باتت مشكلة جدية وكبيرة في لبنان وفق دراسة جمعت بيانات من 16 مستشفى على مدى 3 سنوات. السبب الرئيسي لهذه المشكلة هو الوصف العشوائي للأدوية الناتج من عدم تطبيق المبادئ التوجيهية السريرية، وضعف أنظمة التدقيق والتقييم لممارسات وصف الأدوية في نظام الرعاية الصحية، ومحدودية دمج التعليم المتخصص بالترويج للأدوية وعلوم العلاج بالدواء في المناهج. السبب الأبرز الذي قلّما تتطرق له الدراسات، والذي نجحت هذه الدراسة في التركيز عليه باعتباره التحدي الأبرز، هو شبكات المصالح المبنيّة بين شركات الأدوية والعاملين في القطاع الصحي ما يساهم “في الإفراط في وصف الأدوية غير الضرورية والباهظة الثمن” مقابل استفادة الأطباء والصيادلة وممثلي شركات الأدوية المشاركين في هذه الشبكات “من الكثير من الامتيازات والحوافز المختلفة بعضها غير أخلاقي مثل: عملات ذهبية وقروض سيارات ومنح غير محدودة وخدمات خاصة، إما عن طريق المندوبين أنفسهم أو من خلال دعوات إلى ملاهٍ ليلية أو خدمات الغرف أثناء السفر”، وفق ما يرد في ورقة المركز. لا يقف الأمر هنا، إنما تلفت الورقة إلى أنّه وفق الأدلة فإنّ “شركات الأدوية قادرة على الترويج لأطباء معينين، وهذه الإشكاليات المسلكية هي أكثر شيوعاً بين ممثلي شركات الأدوية المحلية بالمقارنة مع الشركات العالمية”. الجدير بالذكر أنّ 33% من مجموع النفقات الصحية تدفع على الأدوية، ويبلغ نصيب الفرد من الإنفاق على الأدوية في لبنان 3.1% وهو الأعلى في منطقة الشرق الأوسط، ومن المعدلات الأعلى في العالم. كذلك فإن الإنفاق على الأدوية يشكّل ما نسبته 48.17% من الإنفاق الصحي السنوي للأسر.
تشير ورقة السياسات إلى أن “قطاع الصناعات الدوائية يعاني من هيمنة الأدوية المستوردة ذات العلامات المسجلة المكلفة، حيث تشكل هذه الأدوية أكثر من 80% من إجمالي السوق في لبنان. وقد وجدت إحدى الدراسات أن 1.8% فقط من الوصفات الطبية في اثنتين من صيدليات تضمنت أدوية بديلة (جينيريك)”.
في الواقع، يعلم غالبية المستهلكين بوجود شركات الأدوية في مكاتب الأطباء، وفق الورقة، “إلّا أن نسباً أقل تدرك طبيعة الممارسات المتعلقة بالهدايا المقدمة للأطباء، في حين أن 40% فقط يجدون أن قبول الهدايا الصغيرة أو وجبات الطعام هو أمر خاطئ وغير أخلاقي”. وعليه، تقترح الورقة سياسات تهدف إلى تنظيم علاقة المتخصصين في المجال الصحي مع شركات الأدوية عبر التصريح عن التفاعلات مع شركات الأدوية وعن تضارب المصالح الذي بات جزءاً في كثير من برامج وأنظمة الاعتماد حول العالم، تحت أُطر منظومة العمل الأخلاقي للمؤسسات الصحية. وقد خلصت إحدى المراجعات المنهجية إلى أن “التصريح عن العلاقات المالية يسمح للمرضى باتخاذ قرارات مطّلعة في ما يتعلق بالرعاية الصحية التي يتلقونها، الأمر الذي قد يثني الأطباء عن تشكيل روابط وعلاقات ذات طابع مالي”.
العوامل الأخرى التي تقود إلى عشوائية وصف الأدوية تتعلق بمستويات عدة أولها على مستوى الحوكمة بحيث هناك ضعف في ممارسات التدقيق والتوثيق ضمن مؤسسات الرعاية الصحية، كما أنّ “استخدام المبادئ التوجيهية السريرية المعيارية لدعم عملية الوصف الدوائي واتخاذ قرار حول العلاج المناسب لا يزال محدوداً”. فضلاً عن أنّ “التعليم المتخصص بالترويج للأدوية لا يشكل جزءاً من المنهج الطبي في المؤسسات الطبية الخاصة بالتعليم والتدريب. كما أن المناهج الدراسية للطلاب في المرحلة الجامعية الأولى تركز بشكل أساسي على التشخيص، وبشكل جزئي على علم الصيدلة السريرية”.
إساءة استخدام الوصفة الموحدة
تعتبر فاتورة الدواء في لبنان مرتفعة وعلى رغم محاولات وزارة الصحة تخفيضها عبر اعتماد الوصفة الطبية الموحدة التي تشجع على استخدام أدوية الجينيريك، فإن الورقة تشير إلى أنّ “الوصفة الطبية الموحدة لم تطبق بعد بشكل صحيح، مع ضعف في مستويات الالتزام من طرف الأطباء والصيادلة والمرضى حيث أشار 84% من الصيادلة (عينة من 153 صيدلياً) إلى أن الأطباء يسيئون استخدام خيار “غير قابل للاستبدال” الموجود على الوصفة الطبية الموحدة، في حين أشار 76% منهم إلى أن المستهلكين لا يزالون يقدمون نماذج قديمة. وأكد المشاركون أن علاقة الأطباء مع شركات الأدوية تشكل أحد العوامل البارزة التي تعيق التطبيق السليم لسياسة استبدال الأدوية بالأدوية الجنيسة”.