يذكّر رد الفعل البليد الذي أحاط بمقتل أكثر من مئة مدني جرّاء غارات طيران النظام السوري على مدينة الرقة قبل أيام بعنوان كتاب وضّاح شرارة «أيام القتل العادي».
وفيما أثارت الجرائم التي تحدث الكتاب عنها ضجة كبيرة في حينها والواقعة في الحيز السياسي المباشر كاغتيال رياض الصلح، او على تقاطع الاجتماع والسياسة مثل مقتل موظفي صندوق تعاضد الاساتذة الثمانية في تسعينات القرن الماضي، أطبق التجاهل المرفق ببيانات الادانة الصادرة عن بيروقراطيين اصابهم الملل، على استهداف طائرات بشار الأسد تجمعات سكان الرقة مفاقماً من «يومية» القتل و»عاديته» الى الحد الذي يخرج الفعل من أي استثناء او عزم على منع تكراره.
تغير الطائرات على الرقة هكذا، لأنها هدف سهل ومفيد لإظهار الأسد كشريك في الحرب على الارهاب الذي يحتل المدينة، ولأن المغيرين يعرفون انهم سينجون من أي عقاب يزيد عن التنديد اللفظي من وسائل الاعلام ومن الحكومات والدول الكبرى.
أهداف سهلة ودماء رخيصة يقصفها ويدفعها بشار الأسد في قلب ساحة عمليات التحالف الدولي الذي يعجز هو نفسه عن رسم خطة بسيطة ومفهومة (حتى لا نستخدم كلمة «استراتيجية») لما يريد تحقيقه من حربه على «داعش». وفي الوقت الذي يبقى القول للعسكريين في شأن المعرفة المسبقة لأجهزة التحالف بوقوع ضربة الطيران السوري (نظراً الى خضوع الرقة كمنطقة عمليات للتحالف لرقابة مستمرة استخبارية وعسكرية من قبل قواته)، فإن تعامي الحكومات الغربية عما جرى في الرقة صباح الثلثاء الماضي يفصح عن أمور عدة.
أولها وأفدحها، غياب الرؤية السياسية لكيفية التعامل مع نظام الاسد ومع «داعش» في آن. فالأحاديث الأميركية عن الحرب الطويلة تفسر احوال قائلها اكثر مما تفسر الوضع القائم ومستقبله. فهؤلاء الحائرون بين رطانتهم عن حقوق الانسان واستهداف المدنيين و»وحشية قوات بشار الاسد» – على ما ورد في بيان المتحدثة باسم وزارة الخارجية الاميركية – وبين اعاقتهم لأي ضغط جدي لفرض الحل السياسي على الأسد، لا يفعلون في واقع الامر غير ارسال رسائل فارغة من أي مضمون الى الأسد وحلفائه: ما من سياسة او خطة او قدرة على تحمل عبء وقف المذابح بحق السوريين. الفراغ الاميركي لا ترجمة له، بداهة، الا التشجيع على المزيد من القتل المجاني.
ثانيها، أن توفر الضحايا الجاهزين للموت والصامتين والذين لا باكين عليهم ولا مطالبين بالعدالة لهم في الحكومات ووسائل الاعلام، يعيد الى الاذهان قضية الاختلاف في المعايير وفي «قيمة» القتلى. مثال بسيط ان المقطع المصور الذي صور ذبح «داعش» رهينة غربياً ضم كذلك صور ذبح 18 جندياً سورياً. لم يبالِ أحد، خصوصاً نظام الأسد، بالقتلى السوريين الذين سقطوا ضحية وحشية لا تقل عن تلك التي تعرض لها الرهينة الغربي. كما لم يبالِ احد بضحايا الرقة. فالقتلى انواع وأصناف والانسانية لا تغطي عينيها (على ما نجد في التماثيل التي تشخص العدالة) ولا تتعامل مع البشر بذات المعايير. فكعب القتيل الغربي أعلى من كعب زملائه الجنود. ولا شك أن في أدنى اللائحة يقبع ضحايا الرقة الذين لم يحزن احد لأجلهم غير اقربائهم المباشرين.
ثالثها، ان سلوك التحالف في تمييزه بين الضحايا، يصب الماء في طاحونة «داعش» ومقولة المظلومية السنّية وتحمّل هذه الجماعة الخسائر البشرية والمادية الاكبر في صراعات المنطقة التي تزداد سمات «اليومية» والعادية» فيها.