IMLebanon

أهالي رأس النبع يفتقدون “الشريك المسيحيّ”

 

الجامع ما عاد يعانق الكنيسة

 

هي منطقة رأس النبع في بيروت، المحاذية لوسط بيروت التجاري والأشرفية اليوم، والتي تتوسط “الشرقية” و”الغربية” في الحرب الأهلية التي دامت 15 عاماً، إنها ذات أهمية استراتيجية على مستوى حروب الشوارع، قوامها خطّي تماس هما بشارة الخوري والسوديكو، اللذان غيّرا ديموغرافيا المنطقة حتى باتت تفتقد على لسان أهلها “للشريك المسيحي اليوم”. التحولات الديموغرافية تزامنت مع تحولات عمرانية شهدتها المنطقة بعد إعادة الإعمار. وبعد 50 عاماً من الحرب هناك ثابت وحيد، هو خسارة اللبنانيين جميعهم في الحرب، وفوز “الآخرين” على أرض لبنان. وأكثر الفائزين في رأس النبع، كان النظام السوري. لكن ماذا عن القصص التي لم تروَ عن تلك الحرب؟

 

النظام السوري أبى إلا أن يؤرّخ وجوده في رأس النبع في الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان، من بوابة اغتيال مسؤول العلاقات الإعلامية لـ “حزب الله” محمد عفيف في مقر حزب البعث السوري في رأس النبع. 50 عاماً بين الحربين، وما زال لكل “مأتم” في لبنان، لسوريا الأسد من صناعته “قرص”. فحرب الآخرين على أرض لبنان، وصلت بإجرام المدفعية السورية في ثمانينات القرن الماضي، إلى إشعال خطوط تماس رأس النبع، لتقتل “المسلم” و”المسيحي” و”تعلّقهما” ببعضهما البعض.

 

 

 

ماذا في قصص الحرب التي تروى للمرة الأولى؟ ها هي قصة القناص الفرنسي الذي “كان يقتل المسيحية عالراس”. وهي قصة من بين عشرات القصص التي دفنت مع الحرب، وماذا عن التحولات الديموغرافية والعمرانية التي طرأت على المنطقة؟ وكيف باع المسيحيون أراضيهم فيها وصولا لإفراغ كنيسة سيدة النجاة من مصلّيها أيام الآحاد؟ وماذا عن فارق ذكريات متاريس الحرب بين جيل الحرب وجيل الثورة في منطقة رأس النبع؟

 

 

السوديكو: من خط تماس إلى ثورة “كلن يعني كلن”

 

عند إشارة السوديكو سيظهر أمامكم “بيت بيروت” أو البيت الأصفر، الذي تم تحديثه كمتحف، وهو أكثر معالم المنطقة الشاهدة على الحرب ومتاريس رأس النبع شهرة. من حسن حظ جيل التسعينات والأجيال التي تلته، أنها لا تملك ذكريات دموية مؤلمة تستعيد شريطها كلما مرت عند إشارة السير المؤدية إلى وسط بيروت والأشرفية أو عمق رأس النبع وصولاً إلى برج أبي حيدر.

 

 

 

نذهب إلى تقاطع بشارة الخوري، في موازاته، بيوت “مخردقة” بالرصاص، أبت إلا أن تبقى شاهدة على قساوة الحرب. أحدى تلك المباني يملكه شخص من آل فواز، نسأل عنه، يقولون لنا “مسافر”. نسأل عن المستأجرين حيث يتدلى “غسيلهم” من المبنى معلناً وجود سكان فيه، فيجيبنا سكان المنطقة “هم سوريون تم تأجيرهم غرفاً وشققاً”.

 

 

ندخل محل “كعك النبع” في المبنى نفسه، موظفوه سوريون بالكامل. فالوجود السوري في لبنان طرأ عليه تغيير بعد 50 عاماً من الحرب، ليتحول من وجود “مسلح” في حرب خطوط تماس رأس النبع، إلى عمالة ونزوح اقتصادي في المنطقة اليوم.

 

جسر الرينغ: من جثث القتلى إلى تمارين اليوغا

 

أبو محمد، وهو رجل في السبعينات من عمره، كان يعمل في الأشرفية خلال الحرب. في أحد الأيام، وبينما كان عائداً من عمله من جهة تقاطع الصيفي، تم حجزه عند حاجز للكتائب قبل وصوله إلى السوديكو. يومها كان “الذبح عالهوية”.

 

كان العرق قد بدأ يتصبب منه، وفي لحظات حاسمة ومرعبة كهذه، ومن حيث لا يدري، صودف وجود صديقه المسيحي هناك، فسلّم عليه بحرارة (رغم برودة الموقف) وتوسط لدى الحزب لتركه حراً فهو “من عضام الرقبة!”.

 

هكذا و”ع اللبناني” نجا أبو محمد من الموت شبه المحتم، لأنه ببساطة يعرف أحد المتواجدين في ساحة القتل على الهوية. فمن كانوا يَقتلون في الحرب، لطالما اعتبروا ضحيتهم “الآخر المختلف”، وعندما كانوا يعرفونه كحالة أبو محمد، كان يتحول إلى “عظام الرقبة”، فمشكلة اللبنانيين كانت وتبقى بزعماء الطوائف الذين يجيدون تحريك عصبياتهم الطائفية لمآرب سياسية لا علاقة لها بالطوائف.

 

“الإشتراكي”، “حركة أمل”، “المرابطون”، “الحزب الشيوعي” و”القومي السوري”… كل منهم “تمترس” عند متراس في رأس النبع. العام 1982 كانت الحالة تعبانة، تهجرت غالبية أهالي رأس النبع (بعضهم بشكل نهائي وبعضهم بشكل موقت)، وحل مكانهم مقاتلون يساريون احتلوا المنطقة.

 

 

 

عن الدور الذي لعبه النظام السوري، يقول أبو محمد “رؤساء الأحزاب في لبنان كانوا يعقدون هدنة، عندما تبدأ الهدنة بتعطيل مصلحة النظام السوري في لبنان، كان يبدأ بنسفها”. يبدأ الرصاص “على جهتي خط التماس، لمّا تهدأ الجبهة، يعلق السوريون اللبنانيون ببعض، وتسقط الهدنة ويستأنف القتال”.

 

 

 

القتال هنا كان يعني: المسلمون “يكمشون” مسيحي ويقتلونه ويرمونه تحت جسر زقاق البلاط، والمسيحيون “يكمشون” مسلم ويقتلونه ويرمونه تحت جسر الرينغ. فالمدفعية السورية كانت “تشتغل شغلا” في الحرب. أما الأسلحة على خطي التماس فكانت متنوعة من كلاشينكوف إلى دوشكا، RBG، هاون، ومدفعية.

 

 

 

من الحكايات التي لم تروَ في الحرب، حكاية قناص فرنسي من أصل غاني، كان يترصد ضحاياه عند سطح بناية “برج رأس النبع” في الثمانينات. ووفق المعلومات “بقي القناص 6 أشهر في لبنان قبل أن يغادره، وكان “يقبض عالراس”.

 

 

 

 

 

“نفضنا” بيتنا 3 مرات في الحرب

 

“ولدت عام 1975، وعمري من عمر الحرب” يقول عامر طيارة، الذي يذكر رأس النبع في الحرب كحلم صبي صغير: “شيء بيضحك، كنا نقطع بشارة الخوري، نهرب عالبسطة ونعتبرها منطقة آمنة وهي تبعد شارعين فقط” يتابع “الناس عمتتقنص براس النبع ونحنا عالبسطة عايشين حياتنا عادي ببيت ستي”. فرأس النبع هي “الموت” وجوارها هو “الحياة”. خسر عامر خاله عند متاريس رأس النبع، فخاله توفي أثناء نقله أثاث منزله من رأس النبع إلى برج أبي حيدر التي تبعد 200 متر. الموت والدمار بصما المنازل وجدرانها. أهلي أعادوا ترميم منزلنا 3 مرات في الحرب. ولا أعرف كيف كانوا يصدقون أن الأوضاع ستعود وتمشي؟”.

 

 

 

يبقى أن الاستنتاج الأسوأ الذي توصل إليه عامر “هو ما كشفته حرب إسرائيل على غزة، بأنه ليس من الضروري أن يكون هناك سبب لقتل الناس في الحرب، فآلة القتل هي آلة قتل”.

 

 

 

 

 

شهادة مختار

 

“كان عمري 13 سنة في الحرب”، يقول مختار رأس النبع خالد القيسي، الذي يتذكر خطوط التماس، وشكل المسلحين آنذاك، ومشاعر الخوف التي نشأ عليها طيلة الحرب، حيث كانت “أمتار تفصل بيننا وبين خط التماس”.

 

 

 

جيل كامل نشأ على مشاعر الخوف والتوتر والرعب، لكن من حسن حظه، أنه نشأ في بيئة صارمة وفق تعبيره، بيئة حاضنة وحامية. “فوالدنا لم يدعنا ننجرّ لأي حزب أو منظمة، بل وجهنا لمسؤولية تأمين مصروفنا بعرق جبيننا، ليبعدنا عن أجواء الحرب إلى سوق العمل، وقد نجح بذلك، حامياً إيانا من الانخراط فيها”.

 

 

 

والد المختار القيسي لم يحمه من تلويث يديه بدماء لبنانيين وحسب، بل حماه أيضا من أن تتلوث أيدي آخرين بدمائه. في السياق يقول “كل أصحابي ورفاقي الذين كنت معهم منهم من مات في الحرب ومنهم من أصيب فيها. لأنهم كانوا ماشيين بطريق مش مظبوط”.

 

 

 

يتابع “رأس النبع مختلفة جدا اليوم، عن السابق، فمن شجر الـ  “أبو صفير” والليمون والمساحات الشاسعة، والمباني المؤلفة من طابق واحد، إلى مرحلة إعادة الإعمار والعمارات الشاهقة، انتقلت المنطقة من أجواء تشبه الضيعة في قلب بيروت، إلى تغيّر عمراني وديموغرافي كبير خلال فترة الإعمار بعد الحرب. كانت رأس النبع وأكبر عائلاتها المسلمة هي القيسي، الغزاوي، الصامع، والشعار، وأكبر عائلاتها المسيحية هي خوري، عكاوي، جبرا، مطر، مجدلاني. “النصف بالنصف مسلمين ومسيحيين”، تتوسطها مطرانية الكاثوليك وكنيسة سيدة النجاة، وكان أهلنا يفتحون البيوت لبعضهم في الأفراح والأتراح التي نتشاركها، ولا يعرفون الشيعي من السني من المسيحي، حتى أتت الحرب”.

 

 

 

اليوم، لم يبق من المسيحيين إلا 2 في المئة من سكان رأس النبع. “المنطقة تفتقد اليوم إلى الشريك المسيحي” يقول المختار القيسي، وهي جملة سبق أن وجهها مباشرة للبطريرك مار بشارة بطرس الراعي في اجتماع له مع مخاتير بيروت منذ قرابة الـ 6 سنوات.

 

 

 

واستدرك القيسي أن بيع المسيحيين أراضيهم تسبب بسكنهم خارح رأس النبع، وأفرغ الكنيسة من زوارها، لكنه يشدد على أهمية الشراكة في رأس النبع، وأن يأتي المصلون إلى كنائسها، فنحن بحاجة إلى المسيحي الآدمي والشيعي الآدمي والسني الآدمي، واللبناني الآدمي أيا كانت طائفته.

 

 

 

يبقى أنه ربما لا ينقص اللبنانيين أن يعانق الجامع الكنيسة، بل أحزاب وطنية ودولة مؤسسات تساوي بينهم بالمواطنة.